في قلب منطقة البحيرة الراقية في تونس، اعتصم لمدة أشهر مئات المهاجرين غير النظاميين القادمين من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، على بعد أمتار من مقر المفوضية السامية للاجئين، مطالبين بتسهيل هجرتهم نحو أوروبا.
أمضى المحتجون، نساءً ورجالاً وأطفالاً، أشهراً في العراء من دون أن تكترث المنظمة الدولية التي أحاطت مقرها بالأسلاك الحديدية لأمرهم، إلى أن قرّر الأمن التونسي فضّ اعتصامهم وإخلاء المنطقة منهم ونقلهم بعيداً عنها.
تتشابه قصص معاناة هؤلاء وتتقاطع أحلامهم. يشتركون في الإصرار على بلوغ الضفة الأخرى من المتوسط، وإن كان ثمن ذلك المخاطرة بحياتهم.
الهروب من الجحيم
من السودان إلى تونس كانت رحلة إبراهيم، الشاب الذي لم يتجاوز بعد الثلاثين من عمره، قبل أكثر من عام. إبراهيم سوداني مسجّل على قائمة طالبي اللجوء في تونس، أمضى أشهراً وهو ينام في الشارع أمام مقر المفوضية السامية للاجئين، قبل أن يجبره الأمن التونسي ومن معه من المعتصمين على فك خيامهم ومغادرة المكان.
قدم إبراهيم إلى العاصمة التونسية من مدينة جرجيس جنوباً، حيث قضى بضعة أشهر بعد وصوله إلى تونس. "رحلة الوصول إلى تونس لم تكن سهلة"، يقول الشاب الذي مرّ بمصر ثم ليبيا قبل أن يقرّر التوجّه نحو تونس. ويضيف: "كانت رحلة متعبة عندما بدأت الحرب تحول العيش في السودان إلى ما يشبه الجحيم، فقررت أن أهرب، تركت عائلتي ورائي، إذ لم يكن من السهل أن نغامر جميعاً بخوض هذه الرحلة، فالطريق طويل وخطير".
وصل إبراهيم الى مدينة جرجيس التي يعيش فيها عدد كبير من المهاجرين غير النظاميين عبر الحدود الليبية، واستأجر بيتاً مع عدد من أمثاله ممن حطّت بهم الرحلة هناك أملاً في أن تكون آخر محطة له على طريق حلمه الأوروبي.
هناك، في تلك المدينة التي هجرها شبابها من التونسيين فعوضهم الشباب القادم من دول جنوب إفريقيا، اشتغل إبراهيم في مهن مختلفة، مثل "جمع الزيتون وتنظيف المقاهي والمطاعم والتحميل وأشغال البناء وغيرها من الأعمال الشاقة، كنت أقوم بها من دون تذمّر"، يقول الشاب الذي يؤكّد أنه كان يحاول طيلة تلك الأشهر توفير قدر من المال لركوب أول مركب نحو أوروبا.
كان إبراهيم يتطلّع إلى أن تفي مفوضية اللاجئين بوعودها، وأن يتمكن من السفر إلى أوروبا بطريقة نظامية كلاجئ.
لكن رغم اعتصامهم لمدة أشهر طويلة رفضت المفوضية السامية للمهاجرين في تونس إيجاد حل لأزمة المعتصمين أمام مقرها، ما استدعى الأمن التونسي إلى التدخّل في أكثر من مناسبة لإبعادهم.
لم يكن العيش في تونس حلم إبراهيم، فمنذ ترك بلده قرّر أن يصل إلى أوروبا، يقول: "تونس مجرد محطة بالنسبة اليّ، لا أنوي الاستقرار فيها، الوضع صعب هنا والسكان يرفضوننا، كل ما أريده هو السفر إلى أوروبا".
جرّب إبراهيم الذي تشي ملامحه بحالة البؤس التي يعيشها، الهجرة السرّية في مناسبة وحيدة، لكنه لم ينجح في تحقيق حلمه، وخسر كل ما جمعه من مال. "تمّ توقيف صاحب المركب قبل ساعات من موعد الرحلة، دفعت كل ما استطعت تجميعه، أكثر من 2000 دينار، والآن عليّ أن أعمل من جديد لأجمع ثمن رحلتي".
يتساءل الشاب بحيرة: "لا أدري لماذا يمنعوننا من السفر، أغلبنا يريد الهجرة!".
وعن ظروف إقامته في تونس، يقول: "السكّان هنا بعضهم يتعاطف معنا ويعاملنا باحترام، ثمة من يساعدنا وهناك أيضاً من يحاول استغلال حاجتنا للعمل، ويحدث أن يُسمعنا أحدهم كلاماً يقطر عنصرية".
مطاردة الحلم
شابات إفريقيات وجدن أنفسهن أمام حل وحيد، العمل مساعدات منزليات، "تيتا" واحدة منهن، وجدت عملاً لدى سيدة تونسية انتقلت الى سكن جديد في أريانة.
"تيتا" شابة نحيفة لم يتجاوز عمرها 24 سنة، أجبرتها ظروفها القاسية على مغادرة غينيا إلى تونس. تقول إنها دخلت من الحدود الجزائرية بعد رحلة استغرقت أياماً عدة مشت فيها لساعات طويلة بعدما تركتها ومن معها شاحنة "حراق" (من ينظّم رحلات الهجرة) على مقربة من الحدود الغربية لتونس. "هناك لاحقنا الحرس الجزائري وأجبرنا على التوجّه نحو حدود تونس، لكن الحرس التونسي اعترضنا وأعادنا نحو الحدود الجزائرية وفي النهاية نجحنا في اجتياز الحدود"، تقول الشابة.
لم تكن الشابة تعرف الكثير عن تونس قبل أن تفكر في الهجرة إلى أوروبا: "كثير من شباب المنطقة التي أعيش فيها سافروا إلى تونس وبعضهم وصل إلى فرنسا وصار يرسل مالاً لعائلته، لذلك فكرت في أن أجرب حظي وطبعاً دفعت الكثير من المال لقاء هذه الرحلة".
منذ قدومها إلى تونس، تعمل "تيتا" مساعدة منزلية بأجر أدنى من الأجر الذي تحصل عليه نظيراتها التونسيات، لكنها لا تهتم لذلك، لأن كل ما ترغب فيه، خصوصاً بعد انضمام شقيقتها إليها، هو جمع المال والهجرة نحو أوروبا في أقرب وقت ممكن.
عانت "تيتا" من العنصرية كما تقول. فـ"وصيفة" هي الكلمة التي تسمعها دائماً أينما ذهبت وفق تأكيدها، وتعني في العامية التونسية "العبد"، لكنها تمسكت بتحقيق حلمها، فلدى محاولة الاتصال بها بعد لقاء أول في الهجرة إلى الضفة الأخرى من المتوسط، بعد أسبوعين من اللقاء، غادرت تونس في رحلة "حرقة" لا يعلم أحد مصيرها، بحسب قول بعض معارفها.