"ما عدت أنا نفسي بعد مروري بذلك الجحيم... فقد تدمّرت تماماً". بهذه العبارة تختزل مريم المغربية محنة احتجازها مع آخرين في مخيمات بميانمار، وقعوا جميعاً في قبضة مافيات الإتجار بالبشر بين تايلاند والصين، ووجدوا أنفسهم في منطقة نائية بجنوب شرق آسيا، تشهد حروباً أهلية منذ عام 1949، ويصعب الوصول إليها.
بدأت قصة مريم في اسطنبول التركية، حيث كانت تدرس الدراسات العليا في إدارة الأعمال. وإجادة هذه الطالبة المغربية العشرينية أربع لغات جعلت منها صيداً ثميناً للمافيا الصينية، فاستدرجتها من خلال وسيط لم يكن سوى ابن بلدها المتحدّر من مدينة مراكش، نجح في إقناعها بالسفر إلى تايلاند حيث تنتظرها "وظيفة الأحلام في التجارة الإلكترونية"، مُقابل راتب يصل إلى 4 آلاف دولار شهرياً.
ضحية الوسيط
تقول مريم لـ"النهار العربي"، إنّ الوسيط المغربي طمأنها كثيراً، وأكّد لها أنّها ستعمل في شركة محترمة، توفّر لها المسكن اللائق والمأكل الكافي، "فوافقتُ وأنا متّقدةٌ حماساً لخوض هذه التجربة المهنية الجديدة، ورافقته إلى ماليزيا على نفقته حيث استصدرتُ تأشيرةً إلى تايلاند، قبل أن ينقلوني إلى منطقة كارين في ميانمار".
بعد بلوغ مريم برّ تايلاند، أنهكها التعب فنامت في الطريق البرية، ولم تُلاحظ مسارها. فور استيقاظها، فوجئت بوجودها في سجن كبير، يضمّ الآلاف من المحتجزين من كل الجنسيات، يُجبرون على العمل 12 ساعة وأكثر أمام أجهزة الحاسوب. تقول: "يُقسم العمل بين فئتين: الراقنون (Typers) الذين يتولون مهمّة التواصل الكتابي مع الضحايا من مختلف دول العالم، ويستهدفون بالدرجة الأولى حَمَلة الجنسية الأميركية لإقناعهم بالاستثمار في التجارة الإلكترونية، والعارضون (Models)، وكنت واحدة منهم".
تشرح مريم لـ"النهار العربي" مسار العمل المضني في ذلك السجن الكبير، فتقول: "بعد محادثات مكتوبة يجريها العاملون في الفئة الأولى، وأغلبهم صينيون يتعرّضون لمعاملة قاسية أكثر من غيرهم الأجانب، يُكلّف العاملون في الفئة الثانية وأغلبهم نساء، إجراء محادثات مع العملاء عبر الفيديو، باستعمال الذكاء الاصطناعي، فلا يرى العميل وجه المتكلم الحقيقي، وذلك لدفع هؤلاء الضحايا إلى استثمار أموالهم في التجارة الإلكترونية والإتجار في العملات والبورصة، أو في أي عمل متصل بالاحتيال الإلكتروني". تضيف مريم: "تحكّموا بي، وكنت مفتاح جريمتهم. استعملوا صوتي واستغلوني لاستدراج ضحايا جدد".
بلا رحمة
تتنهد مريم بأسى كبير، قبل أن تكمل سردها تفاصيل ما جرى بها: "انتحرت إحدى المحتجزات بعد يومين من وصولي، كما اغتصبوا صينيتين، وقتلوا آخرين أمامنا بلا رحمة. وكانوا يرددون أن هذا هو مصيرنا المحتوم إن عصينا أوامرهم، أو سبّبنا لهم أي مشكلة". بحسبها، كان أفراد هذه العصابات يربطون أيدي بعض المحتجزين وأرجلهم، ويُلقون بهم في ساحة كبيرة تحت أشعة الشمس الحارقة أياماً عدة، ويحرمونهم من الطعام والماء، ويصعقونهم بالكهرباء بين الحين والآخر. وتضيف مريم: "كانوا يفتشون هواتفنا مراراً، فكنا نراسل أهلنا سريعاً ونحذف الرسائل فوراً، إذ كان السلاح مصوباً إلى رؤوسنا". كما تتذكر معاناتها حين تأخّرت دقائق قليلة عن موعد العمل، فكلّفها هذا الأمر دفع غرامات طائلة، "فضلاً عن تعذيبي في "الغرفة السوداء" أو "البلاك رووم" كما يسمّونها، حيث جلدوني، وبعض جروحي لم يندمل بعد. لقد عشت رعباً لا يوصف".
في هذه المخيمات عدد كبير من الشباب العرب، من تونس والجزائر وليبيا ومصر ولبنان، وفق ما كشفته مريم لـ"النهار العربي"، لكنها لا تعرف عددهم الحقيقي. هناك، وسط هذا البؤس، تعرّفت إلى يوسف (اسم مستعار)، وهو شاب لبناني عشريني قادم أيضاً من تركيا، حيث كان يعمل في متجر للملابس. في المخيم نفسه، التقى يوسف ابن بلده الذي زرع في مخيلته وهم الإثراء السريع من طريق التجارة الإلكترونية. تقول مريم: "كان التواصل مع يوسف محدوداً. كان يُجيد الإنكليزية، فنقلوه إلى كمبوديا".
وصل أول مغربي إلى مخيمات الاحتجاز الصينية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2023. حينها، كان تواصل المحتجزين مع عائلاتهم شبه معدوم. لكن، بدأ هذا التواصل حين عرفت العائلات أن أبناءها وقعوا ضحايا عصابات الإتجار بالبشر التي يجرّمها القانون المغربي. وتعارف أفراد هذه العائلات حين التقوا في أثناء تقديم الشكاوى لدى مصالح وزارة الخارجية المغربية والسلطات الأمنية والقضائية، فتألفت لجنة منهم، أشادت بما وصفته بـ"التفاعل الإيجابي للسلطات الأمنية والقضائية التي باشرت فوراً عمليات البحث والتحري والتحقيق تحت إشراف النيابة العامة".
"أنا أول محرّرة"
تقول مريم: "بجهود فردية، وبمساعدة من منظمات دولية تتعاطى الشأن الإنساني، كنت أنا أول مغربية تستطيع هذه العائلات تحريرها من ذلك الجحيم". تدخّل في هذه المسألة الحزب الديموقراطي البوذي لولاية كارين، أو ما يُعرف بميليشيا "ديكابيها"، وفصائل أخرى معارضة للنظام العسكري الحاكم في ميانمار. تضيف مريم: "يعود الفضل الأكبر في تحريري من ذلك السجن إلى رجل معارض للحزب الحاكم، وقد كلّفه ذلك إحراق بلدته بكاملها". وبعد مريم، تمكنت العائلات المغربية من إنقاذ 7 محتجزين، من خلال دفع فديات تراوح قيمتها بين 60 ألفاً و 100 ألف درهم.
تحمّل عائلات المحتجزين المغربيين شباناً مغربيين أيضاً يتعاملون مع المافيا الصينية، مسؤولية ما يحصل لأبنائها، كما يتهمون شخصيات صينية نافذة، ويتحدثون عن تورط تايلانديين في هذه المسألة؛ إذ تقوم هذه العصابات المنظمة باستخراج التأشيرات للمغاربة من السفارة التايلاندية في ماليزيا، مستفيدة من الفساد المستشري هناك. وتُشدّد هذه العائلات على ضرورة تعزيز التعاون المغربي - الدولي لحل هذه القضية، لأن المغرب لا يستطيع حلّها وحده.
اليوم، تخاف هذه العائلات على أبنائها الذين ما زالوا قيد الاحتجاز في المخيمات بميانمار. فبعدما وصلت قوات المعارضة المسلحة إلى المنطقة نفسها، منحت الأجانب 5 أشهر للمغادرة. وتتخوف العائلات من ترحيل أبنائها إلى مخيمات في كمبوديا، المركز الذي انطلق منه هذا كله، وحيث تتورط في المسألة شخصيات نافذة في الجيش والسياسة.