في تصنيف صدر عن منظمة اليونسكو قبل سنوات قليلة احتلت تونس المرتبة الأولى عالمياً في تخريج جامعاتها سنوياً طلاباً في اختصاصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات وغيرها من الاختصاصات العلمية. وفي آخر تصنيف للمنتدى الاقتصادي العالمي احتلت تونس المركز الثاني في هذا المجال أيضاً، ويضم التصنيفان دولاً مهمة على غرار ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة والهند وماليزيا والبرازيل وكوريا الجنوبية وروسيا وغيرها.
ويرى كثير من التونسيين أن مجرد وجود تونس في هذه التصنيفات ومع هذه الدول هو دليل اعتراف دولي بأهمية التعليم العمومي التونسي الذي ركزت دعائمه دولة الاستقلال وخصصت له ثلث موازنة الدولة. كما رأى خبراء في هذين التصنيفين اعترافاً دولياً بقدرة هذا التعليم على إنتاج الكفاءات في الاختصاصات العلمية القادرة على النجاح في تونس وفي خارجها، رغم الثغرات التي يراها التونسيون واقتضت القيام باستشارة وطنية بهدف إجراء إصلاحات لمواكبة التطورات العالمية.
انتشار الجامعات
ولعل من أهم الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة هو انتشار الجامعات في تونس انتشاراً لافتاً، إذ سجل إلى حدود شهر تموز (يوليو) 2023 رسمياً وجود 236 جامعة جعلت البلد يحتل المرتبة 24 عالمياً والأولى عربياً وأفريقياً. وتأتي تونس في التصنيف مباشرة بعد إسبانيا بـ276 جامعة وقبل تركيا بـ209 جامعات. ويؤكد متخصصون أنه لو تم اعتماد المساحة وعدد السكان، ونصيب كل فرد من المؤسسات الجامعية، فإن تونس ستكون من الخمس الأوائل عالمياً في تصنيف تحتل الهند صدارته وتأتي فيه الولايات المتحدة ثالثة.
ومن الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة أيضاً التوجه العام للدولة التونسية منذ بداية التسعينات الذي ارتكز على تشجيع التلاميذ على التوجه إلى الاختصاصات العلمية، وما صاحب هذا التشجيع من إنشاء لشُعب علمية جديدة في المرحلة الثانوية على غرار الفصل بين شعبتي الرياضيات والعلوم الطبيعية ثم إنشاء شعبة جديدة للإعلام، وكذلك ما صاحب هذا التشجيع من تشييد لمؤسسات جامعية جديدة في اختصاصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، وبخاصة المعاهد العليا للدراسات التكنولوجية. وكان في الحسبان خلق مسار تنموي يقوم على الصناعات المتطورة، لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، وذلك بعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 ثم اندلاع ثورة اجتماعية في تونس عام 2010 استغلتها تيارات لم تساهم فيها ووصلت إلى الحكم باسم الدين والحفاظ على القيم.
منع التوظيف
ترى أستاذة التعليم الثانوي إيمان النمري، في حديث إلى "النهار العربي"، أن "إغلاق باب التوظيف في الوظيفة العمومية للضغط على كتلة الأجور التي أصبحت تثقل موازنة الدولة ومطالبة صندوق النقد الدولي بالحد منها شرطاً لإقراض تونس لتجاوز مخلفات العشرية السابقة، ساهما في عدم استغلال الكفاءات العلمية من متخرّجي الجامعة التونسية الاستغلال الأمثل". وحتى المشاريع الخاصة النجاح فيها غير مضمون في تونس، برأي النمري، وذلك في ظل اقتصاد ريعي يسيطر عليه عدد قليل من العائلات التي عجزت الحكومات المتعاقبة عن محاربة احتكارها للسوق ووأدها في المهد لكل مبادرة شبابية.
وتضيف: "ونتيجة لذلك أصبح التوجه العام للمتخرّجين في الجامعات التونسية في الاختصاصات العلمية هو الهجرة إلى الخارج، حيث أصبحت أوروبا وأميركا الشمالية أبرز المستفيدين من الجامعات التونسية، بخاصة في الطب والهندسة بمختلف فروعها وأنواعها. ويؤكد هذا القول نجاح الأطباء التونسيين من متخرّجي كليات الطب التونسية سنوياً في عدد من البلدان الغربية في منافسة الأطباء المقيمين والتفوق عليهم".
وفي السياق تشير الأستاذة في الجامعة التونسية في اختصاص الرياضيات سلمى المملوك إلى الانتشار الواسع للجامعات في تونس، وتقول لـ"النهار العربي": "لم يعد الأمر يقتصر على وجود جامعة في كل جهة تضم عدداً من الولايات، بل أصبحنا نتحدث عن جامعة في كل ولاية حتى وإن لم تتوافر فيها بالضرورة كل الاختصاصات، ومعظم هذه الجامعات الجديدة تضم اختصاصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات لاستيعاب الأعداد المتزايدة للحاصلين على البكالوريا في الاختصاصات العلمية". لكن المشكلة في رأيها تبقى أن "سوق العمل لم تواكب التطورات في التعليم التونسي بفعل عوامل خارجية وداخلية، وهو ما جعل هذه الجامعات تنفق من المال العام ليتكون فيها طلبة تنتفع منهم دول أخرى".
وتضيف المملوك: "لعل الميزة الوحيدة لهذه الظاهرة أن تونس بات لديها في السنوات الأخيرة عدد معتبر من المهاجرين من أصحاب الشهادات العلمية العالية ممن اندمجوا في سوق العمل في البلدان المتقدمة، وأصبحوا يحوّلون مبالغ معتبرة بالعملة الصعبة تساهم اليوم في سداد ديون تونس الخارجية التي تسببت فيها عشرية الخراب".