في نهار 24 كانون الأول (ديسمبر) 1951، أعلن ملك ليبيا محمد إدريس السنوسي استقلال بلاده من شرفة قصر المنار الذى بناه الاحتلال الإيطالي وتركت الأحداث التاريخية التي عاصرتها البلاد بصمات على جدرانه، بداية من امتدادات الحرب العالمية الثانية وانتهاءً بمواجهة الجماعات الإرهابية التي أدت إلى تهالك مظهره.
الملك السنوسي يعلن استقلال ليبيا من على شرفة القصر
القصر الذي يتوسط مدينة بنغازي، ثاني أكبر مدن ليبيا بعد العاصمة، والتي تُلقب بعاصمة الشرق الليبي، يشهد منذ نحو عامين عملية لإعادة تأهيله بجهود محلية تحظى بزخم دولي تمهيداً لتحويله متحفاً تاريخياً.
المبنى الذي يبلغ عمره أكثر من قرن، استمد قيمته التاريخية من مواكبته أحداثاً مفصلية في التاريخ الليبي، فقد أُنشئ على مرحلتين، ليكون مقراً للحاكم الإيطالي في بنغازي، الأولى في 1913 تم فيها تشييد الجناح الغربي المطل على ساحل البحر المتوسط، بينما بُني الجناح الشرقي المطل على الشارع الرئيسي وميدان الاستقلال حالياً في 1928، وهو الجزء الذي يضم البوابة الرئيسية. وقد شارك في تصميمه وبنائه ثلاثة مهندسين إيطاليين. ومن الأسماء التي اشتهر بها خلال سنواته الأولى "قصر الحاكم"، ثم أصبح يعرف بـ"قصر غراتسياني"، نسبه إلى الجنرال الإيطالي رودولفو غراتسياني الذي أقام فيه.
وخلال الحرب العالمية الثانية في مطلع أربعينات القرن الماضي، تعرض القصر للقصف كغيره من مباني بنغازي التي كانت مسرحاً لعمليات كر وفر بين قوات الحلفاء والمحور.
ومع بداية العهد الملكي، أعيد تأهيل مبنى القصر، وأصبح مقراً للديوان الأميري، وأطلق عليه اسم "قصر المنار"، وفي مطلع حزيران (يونيو) عام 1949، شهدت قاعته العليا إعلان السنوسي استقلال إقليم برقة (شرق ليبيا)، عقب اجتماع "المؤتمر الوطني البرقاوي" والذي خلص إلى تشكيل حكومة إمارة برقة وانتخاب مجلس نواب ووضع الدستور البرقاوي. قبل أن يعود السنوسي في كانون الأول 1951، ليعلن من شرفته استقلال بلاده تحت اسم المملكة الليبية المتحدة، قائلاً في خطاب الاستقلال: "نعلن للأمة الليبية الكريمة أنه نتيجة جهادها، وتنفيذاً لقرار هيئة الأمم المتحدة الصادر في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 1949، قد تحقق بعون الله استقلال بلادنا العزيزة". ليتحول بعدها المبنى إلى الديوان الملكي.
لكن بعد ثلاث سنوات تم التنازل عن المبنى ليكون مقراً رئيسياً للجامعة الليبية، بمبادرة من رئيس مجلس النواب حينها عبد الحميد العبار، قبل أن يُصبح في تسعينات القرن الماضي مقراً لأكاديمية اللغات التابعة لجامعة بنغازي.
وفي 30 آب (أغسطس) 2008، احتضن القصر مراسم التوقيع على معاهدة الصداقة والشراكة والتعاون بين ليبيا وإيطاليا، وظل تابعاً لما كانت تعرف بـ"اللجنة الشعبية العامة" آنذاك في بنغازي حتى عام 2011.
وفي خضم حراك شباط (فبراير) 2011، تعرض القصر للنهب والحرق الذي أتى على أجزاء منه، كما تضررت أجزاء منه إثر المواجهات التي دارت رحاها بين عامي 2014 و2017، بين "الجيش الوطني" الليبي والجماعات الإرهابية التي كانت تُسيطر على بنغازي.
صورة للقصر قبل أن تصل إليه الحرب
وكانت السلطات في شرق ليبيا قد أعلنت أواخر عام 2022، بدء ترميم القصر ضمن مشروع لصيانة المدن التاريخية، كان ثمرة اتفاقية وقعتها السلطات الليبية مع المكتب الإنمائي للأمم المتحدة في العام نفسه بهدف الحصول على الدعم الفني لتنفيذ بعض المشاريع المشتركة.
مؤسسة "بنغازي الأمل"، إحدى الجمعيات الأهلية التي تشارك في إعادة تأهيل القصر، تحت مظلة صندوق التنمية وإعادة الإعمار الذي يترأسه بلقاسم حفتر، نجل قائد "الجيش الوطني" الليبي خليفة حفتر. وأوضح مديرها محمد جعودة لـ"النهار العربي" أن عمليات إزالة آثار الحرب التي عايشتها بنغازي وإعادة إعمار المناطق المتضررة، يقوم بها عدد من شركات المقاولات الوطنية والإقليمية تحت إشراف منظمات غير رسمية معنية بالملف تتعاون مع الأجهزة الحكومية، مشيراً إلى أن عملية ترميم قصر المنار "باتت في طورها النهائي لإعادته إلى الواجهة التاريخية التي عُرِف بها، تمهيداً لتحويله إلى متحف سيضم مقتنيات تاريخية وقطعاً أثرية تعود إلى عهد الاستقلال والنضال الوطني".
وقال: "أعمال الترميم شملت صيانة جدران القصر وأسقفه وأرضياته وتجديدها، بما في ذلك واجهاته الداخلية والخارجية، مع مراعاة الحفاظ على زخارفه، وتزويده بوسائل السلامة والأمان الحديثة"، مضيفاً أن "معظم الأعمال الإنشائية تم الانتهاء منها، مع بدء أعمال التشطيبات النهائية والتي ستتضمن إدخال تقنيات العرض السمعي والبصري، الأمر الذي سيساهم في جذب الزوار إلى القصر بعد افتتاحه، وبالتزامن تجري صيانة المنطقة المحيطة بالمبنى وإعادة تأهيلها وتوسعة الطرق وإقامة جسور جديدة لتسهيل الحركة المرورية"، لافتاً إلى أن هناك رؤية يتم العمل عليها لتحويل المناطق القديمة والتاريخية في بنغازي إلى مراكز ثقافية وسياحية، بهدف تعزيز مكانة المدينة وتحويلها إلى أحد مراكز الجذب السياحي في ليبيا والمنطقة.
وتحظى عملية ترميم القصر باهتمام دولي، فللمرة الثانية زارت نائبة الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة جورجيت غانيون المنطقة وتفقدت الأعمال الإنشائية. وقالت في تسجيل مصور نُشر عبر منصات الأمم المتحدة: "إنه من المدهش مشاهدة كل هذا العمل لإعادة المبنى إلى شكله الأصلي لمصلحة جميع الناس في بنغازي وليبيا"، مشيرة إلى أن "صندوق الإعمار بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبلدية بنغازي يقودان أعمال إعادة الإعمار الرائعة".
وظهرت غانيون في مقطع الفيديو وهي تتجول في أرجاء القصر. وأضافت أن "هذا مبنى تاريخي مميز شهد العديد من الأحداث المهمة لليبيا، وتأثر بالطبع خلال الصراعات المختلفة، والآن يجري ترميمه بشكل جميل باستخدام مواد أصلية".
وفي منتصف أيار (مايو) الماضي، زارت غانيون عدداً من المواقع التراثية والأثرية في مدينة غدامس القديمة ودرج وأوال، وتعهدت العمل على تعزيز التنمية المستدامة للجميع في ليبيا بالتعاون مع المجتمعات المحلية ومع السلطات الحكومية.