تراهن الجزائر على استقبال أكثر من 12 مليون سائح أجنبي في 2030، ورفع مداخيل قطاع السياحة التي لا تتعدّى حدود 900 مليون دولار سنوياً بحسب الأرقام الرسمية. وهذا رقم يصفه الخبراء بالضعيف مقارنة بالإمكانات الطبيعية والمادية التي تتميز بها البلاد.
كانت الجزائر في سبعينات القرن الماضي وبداية ثمانيناته إحدى أهم الوجهات السياحية في المغرب العربي وشمال أفريقيا. فكانت تستقطب الملايين من السياح الأجانب من كل بقاع العالم، خصوصاً من أوروبا. وعلى رغم حداثتها بالاستقلال حينذاك، فقد استطاعت أن تغني القطاع السياحي بمجمعات فندقية كبيرة وفخمة، جعلتها تستوعب عدداً كبيراً من السياح، ما درّ عليها مداخيل كبيرة.
لكن الوضع تغيّر في نهاية الثمانينات ومع العشرية السوداء في التسعينات، فتراجع الاهتمام الأجنبي بالجزائر كوجهة سياحية، "وهذا منطقي بالنظر إلى ما كانت تعيشه البلاد آنذاك من أوضاع أمنية غير مستقرة"، كما يقول الخبير الاقتصادي عبد الرحمان منديل، مضيفاً لـ"النهار العربي": "كان بلدنا حينها على شفا الانهيار التام، فما كان ملائماً للسياحة. والحصار غير المعلن الذي فرضته شركات طيران كثيرة على الجزائر ساهم بفاعلية في تراجع الإقبال السياحي".
عودٌ على بدء
مع أن الجزائر عرفت مرحلة من الطمأنينة والاستقرار والبحبوحة المالية في حقبة ما بعد سنوات الإرهاب، إلا أن السياحة بقيت تراوح مكانها بسب ضعف الاهتمام الحكومي بهذا القطاع لعقدين من الزمن تقريباً، أي في عهد الرئيس (الراحل) عبد العزيز بوتفليقة.
ساهمت هذه اللامبالاة بقطاعٍ يمكنه أن يدرّ المليارات من الدولارات على خزينة الدولة الجزائرية، في توسيع الفارق بين المداخيل الوطنية من هذا القطاع ومداخيل دول أخرى منه، لا تفوق الجزائر في مقوّماتها الطبيعية ولا في إمكاناتها البشرية. فتنبّهت الحكومة الجزائرية إلى هذا الأمر، وبدأت العمل على تغيير النظرة إلى قطاع السياحة من خلال مبادرات "تعزيز الاستثمار السياحي". وكانت البداية مع السياحة الداخلية، بعدما صارت دول مجاورة "وجهات سياحية مفضّلة لملايين الجزائريين"، كما يقول منديل.
ويضيف: "كان ضرورياً جذب الجزائري نفسه إلى مناطق جميلة في بلاده التي تتربع على أكثر من مليوني كيلومتر مربع، ومعظمها مناطق سياحية بحرية وطبيعية وجبلية خلّابة"، مشيراً إلى مناطق الجنوب الشاسعة وإلى رمال الصحراء وغيرها.
الأسعار... المعضلة!
يؤكّد منديل أن المحاولات لتغيير وجهة الجزائريين حثيثة، "وقد نجحت قليلاً في ذلك، إلّا أن الطريق طويل، خصوصاً إذا تعلّق الأمر بالأسعار".
في نسخة هذا العام من الصالون الدولي للسياحة، الذي تنظّمه وزارة السياحة والصناعة التقليدية الجزائرية، روّجت الوكالات السياحية لوجهات داخلية جذابة.
تقف سلمى، وهي طبيبة في أحد مستشفيات العاصمة، باهتمام أمام أحد الإعلانات. تقول لـ"النهار العربي": "بلدنا ساحر فعلاً، لكننا لا نعرف كيف نحسن استغلال هذا السحر في السياحة الداخلية التي ننحرها على مذبح الغلاء غير المبرّر".
لا شكّ في أن استياء سلمى مبرّر. فهي كانت تخطّط لقضاء إجازة صيفية في وهران أو في عنابة في الجزائر، "لكنني غيّرت رأيي، واخترت السفر إلى تركيا". لماذا؟ تجيب بابتسامة تخفي الكثير من الحسرة: "تكلفة إجازة تمتد 20 يوماً في تركيا تعادل تكلفة 6 أو 7 أيام فقط في أي مكان في الجزائر. فالأسعار السياحية في بلدنا مرتفعة جداً، على رغم الجهود المبذولة للحدّ من ذلك، ومن الحديث المتواصل عن ترقية السياحة الداخلية". وتختم: "ارتفاع الأسعار هو أساس المعضلة التي تواجهها السياحة عندنا، وهي بحاجة إلى حلّ سريع، فالصيف بدأ".
تنقصنا التنافسية
كيف يمكن تخفيض الأسعار لإرضاء سلمى وجزائريين كثيرين جداً يفكرون مثلها؟ في الصالون الدولي للسياحة، يقف محمد بباب ركنٍ اختاره للترويج لعروض وكالته السياحية. يقول لـ"النهار العربي": "بلادنا جنّة. ولا ينقصنا إلّا بعض الاهتمام"، متحدثاً عن التسهيلات التي تساعد وكالته وغيرها من الوكالات السياحية في جذب السائح الداخلي، واستقطاب السائح الأجنبي. يضيف: "لا تقف الأسعار حائلاً أمام تعزيز السياحة الداخلية فحسب، فحتى الأجنبي يغيّر وجهته اليوم بحسب العرض السعري الأفضل، ولسنا قادرين على منافسة وجهات أخرى في حوض المتوسط أو في شمال أفريقيا"، مؤيّداً بذلك ما قالته سلمى. ويضيف أنه ينقل نحو 500 سائح أجنبي إلى الجنوب الجزائري في كل عام، ويتطلع إلى زيادة هذا العدد "إن استطعنا أن نقدّم للعالم عروضاً تنافسية".
وإن كان محمد يكتفي بما قال، غامزاً من قناة الحكومة الجزائرية في مسألة التنافسية، فإنّ سليم بوعلي، وهو مالك وكالة سياحية، يفصح أكثر. يقول لـ"النهار العربي" إن ليلة واحدة في فندق متواضع، من فئة ثلاث نجوم، تكلّف 100 دولار، من دون حساب ثمن وجبتي الفطور والعشاء، "فكيف ننافس دولاً متوسطية تعرض 5 ليالٍ في فنادق من فئة أربع نجوم، مع وجبة الفطور والتنقلات والعديد من المزايا السياحية كالألعاب المائية للأطفال، بـ 200 دولار؟".
يُضيف بوعلي: "على الحكومة أن تولينا اهتمامها الدائم، إذا أردنا استرجاع هيبة الجزائر السياحية. فاعطونا ما يساعدنا من تسهيلات، وخذوا منا سياحة تُدهش العالم".
ديناميكية حكومية
في الصالون السياحي نفسه، يجمع العارضون على الإشادة بما تحقق في القطاع السياحي، وبالاهتمام الحكومي الذي بدأ القطاع يلقاه، وبقانون الاستثمار الجديد الذي يمنح المستثمرين في السياحة تسهيلات وميزات مهمّة تساهم في إدارة التدفق النقدي في القطاع، لزيادة عدد الفنادق وطاقات الاستيعاب وتحسين الخدمات.
الحكومة الجزائرية تحاول رأب الصدع بين مقومات البلاد السياحية وضعف الإقبال، فاعتمدت أكثر من 2200 مشروع سياحي، بوجود أكثر من 800 مشروع طور الإنجاز، وفقاً لتصريحات سابقة أدلى بها وزير السياحة الجزائري مختار ديدوش، مؤكّداً توافر 249 موقعاً للتوسع السياحي، وبرمجة 50 موقعاً في مختلف المناطق "بغية تهيئتها ووضعها في متناول المستثمرين، كي يقيموا فيها مشاريعهم السياحية".
وقال ديدوش إن الحكومة تعتمد مخططاً للتنمية السياحية، يقوم على خمس مرتكزات أساسية، "تبدأ بالاستثمار وتحسين الخدمات، وتمرّ بالترويج وتطوير وسائل الاتصال، وتنتهي بالتسيير الجيد"، مشدّداً على ضرورة تنويع المسارات السياحية "ودعم الاستثمار لتوفير مرافق الإيواء وفق المعايير المعمول بها دولياً، إلى جانب تحسين الخدمات السياحية وفق طلبات الزبائن وبناء وجهة سياحية بامتياز". كما ذكّر بأن تسهيل منح تأشيرة الدخول في المطار ساهم في ارتفاع عدد السياح الوافدين إلى الجزائر.