بين التفاؤل بحلحلة الانسداد السياسي والتشاؤم حيال واقع مؤلم، يتأرجح الليبيون مع كل موفد أممي جديد يتولى المهمة على اختلاف جنسيته، سواء أكان أميركياً أم أوروبياً أم حتى عربياً أم أفريقياً. الشعور نفسه يعيشه الدبلوماسي الدولي، فمع بداية عهده يُظهر تفاؤلاً حيال المضي بالعملية السياسية نحو إنجاز الانتخابات المعطلة، لكن سرعان ما ينقلب الأمر إلى النقيض عندما يغادر فيكيل الاتهامات إلى ساسة ليبيا المتصارعين على السلطة والرافضين تقديم تنازلات يرون أنها قد تطيحهم من مناصبهم، وهكذا تعيش ليبيا في دائرة مفرغة منذ إطاحة نظام العقيد معمر القذافي في 2011.
مهمة خوري: الأمن أولاً
وبينما يتصاعد الرهان على قدرة نائبة الموفد الأممي إلى ليبيا الأميركية ستيفاني خوري على إحكام السيطرة على رقعة الشطرنج الليبية، اختارت الأخيرة أن تُدشن مهمتها بالمسار الأمني، ما أعطى إشارات إلى أولوية هذا الملف لديها.
فقد استضافت تونس قبل أيام طاولة محادثات ترأستها خوري، وحضرها ممثلون عن القوى العسكرية في شرق ليبيا وغربها، بالإضافة إلى أعضاء اللجنة العسكرية المشتركة المعروفة باسم "5+5" والتي توارى دورها خلال الشهور الماضية، لـ"بحث استصدار مدونة سلوك مشتركة بين المؤسسات والجهات العسكرية والأمنية في ليبيا".
واعتبرت نائبة الموفد الأممي في كلمتها أن صوغ مدونة سلوك موحدة "يمكنه أن يساهم في تحسين الاستقرار والأمن وتعزيز حماية المدنيين واحترام حقوق الإنسان، والمساهمة في خلق بيئة مواتية للعملية السياسية". وأضافت: "عندما تعمل المؤسسات الأمنية بطريقة غير منهجية، يصعب تحقيق الرخاء المستدام ورفاهية المواطنين"، قبل أن تقر بأن "طريق الإصلاح ليس سهلاً، ويتطلب الصبر والمثابرة والرؤية المشتركة".
وعلى هامش الاجتماعات التي استمرت يومين، التقت خوري لجنة "5+5" التي تضم بالمناصفة ممثلين عن "الجيش الوطني" في الشرق وقوات الغرب، في محاولة على ما يبدو لإعادة إحياء دورها مجدداً، إذ شددت الدبلوماسية الأميركية على "الأهمية البالغة لمواصلة اللجنة عملها المهم والاستمرار في احترام وقف إطلاق النار والبناء عليه".
محادثات في بنغازي
وعقب اجتماعات تونس، زارت خوري مدينة بنغازي (شرق ليبيا) وعقدت اجتماعاً هو الأول من نوعه مع قائد "الجيش الوطني" خليفة حفتر، وذلك غداة محادثات أجراها الأخير مع نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكيروف الذي أكد التزام موسكو دعم ليبيا في تعزيز قدرات قواتها المسلحة، موضحاً أن "هذا الدعم يشمل مجالات التدريب ورفع الكفاءة"، في نفي ضمني لنشر قوات عسكرية على الأرض ضمن ما يُطلق عليه "الفيلق الأفريقي الروسي". لكن نفي المسؤول الروسي الذي زار شرق ليبيا للمرة الخامسة في أقل من عام، لم يغلق باب التساؤلات والجدل بشأن التنافس الدولي المحموم على الساحة الليبية وتداعياته.
وأفادت المعلومات الرسمية بأن المحادثات بين خوري وحفتر ركزت على المسارين السياسي والأمني، إذ نقلت تأكيد الأولى أنها "تعمل على تهيئة الظروف المناسبة لإجراء الانتخابات وأنها بصدد إجراء المزيد من المحادثات والمشاورات للدفع بالعملية السياسية"، موضحة أنها تدارست مع حفتر "سبل تعزيز اتفاق وقف النار والحفاظ على وحدة ليبيا وسيادتها"، فيما أكد الأخير "دعمه جهود البعثة الأممية من أجل تحقيق تقدم في العملية السياسية والوصول إلى حلول توافقية تقود إلى إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية".
إلى ذلك، وصفت مصادر مطلعة لقاءات خوري مع الأطراف العسكرية والسياسية في شرق ليبيا وغربها بـ"الاستكشافية قبل إحاطتها الأولى أمام مجلس الأمن الشهر الجاري والتي يُتوقع أن تكشف فيها ملامح خيارتها للتعاطي مع الأزمة الليبية"، موضحة لـ"النهار العربي" أن الاجتماعات "لم تتطرق إلى الملفات الشائكة، بل طرحت خوري العناوين العريضة للملفات وركزت على حض الأطراف الليبية كافة على الابتعاد عن التصعيد وتجنب اتساع رقعة الخصومات، والانخراط بفاعلية في المحادثات التي ستقودها بشأن المسارات السياسية والأمنية، بالإضافة إلى الاقتصادية".
ترقّب ليبي... ماذا في جعبة خوري؟
المحلل السياسي الليبي ناصر أبو ديبة أوضح أن نائبة الموفد الأممي "لم تُفصح خلال مشاوراتها عن رؤيتها للتعامل مع الأزمة الليبية، وما إن كانت في جعبتها مبادرة للحل، وهذا ما تترقبة الأوساط الليبية خلال الأيام المقبلة"، مشيراً لـ"النهار العربي" إلى أن "خيارات حل الأزمة في ليبيا باتت محدودة، سواء أكانت بإطلاق مفاوضات موسعة على غرار ما فعلت الموفدة السابقة ستيفاني وليامز، أم بالاعتماد على مجلسي النواب والأعلى للدولة". وحذر من أنه إذا لجأت إلى الخيار الأخير فإن "مهمتها ستكون مهددة بالفشل في ظل تمسك المجلسين بالسلطة". كما رأى أن نجاح خوري في مهمتها "مرهون بدعم دولي جاد للعملية السياسية في ليبيا".
ويتفق الباحث السياسي سالم أبو خزام مع أبو ديبة على كون مشاورات خوري "لم تأت بجديد تترقبه الأوساط الليبية"، محذراً من "الاستمرار في عملية إدارة الأزمة لا حلها عبر وضع الملفات الشائكة على طاولة مناقشات جدية لمعالجتها وتخطيها". وقال لـ"النهار العربي": "ننتظر أن تُقدم نائبة الموفد الأممي جديداً يحرك المياه الراكدة ويُجبر كل الأطراف على الذهاب نحو مراحل جدية لحل الأزمة، بضغط من الولايات المتحدة وخلفها دول أوروبية وإقليمية"، لافتاً إلى أن "واشنطن تضع في أولوياتها تقليم أظافر موسكو وتحجيم دورها في شرق ليبيا، الأمر الذي قد يدفعها إلى التركيز على حل معضلة الانقسام الحكومي، إحدى الإشكاليات الرئيسية في الأزمة الليبية، حتى يكون القرار التنفيذي والمالي بيد سلطة موحدة". لكنه اعتبر، في المقابل، أن زيارة نائب وزير الدفاع الروسي في هذا التوقيت تحمل رسائل بأن بلاده "لن تخرج من ليبيا خالية الوفاض وأن موسكو حاضرة على طاولة المسارين السياسي والأمني".