بدأت تونس التي عُرفت تاريخياً بـ"الخضراء" لخصوبة أراضيها ووفرة مياهها وكثرة غاباتها وحقولها الزراعية، تستشعر الخطر بشأن أمنها الغذائي مع موجة الجفاف التي ضربتها في السنوات الأخيرة. فقد أدى هذا الجفاف إلى تراجع الإنتاج الزراعي من الحبوب خصوصاً، ما جعل البلد ينفق مبالغ كبيرة من العملة الصعبة لاستيراد القمح من الخارج، وخصوصاً من أوكرانيا وروسيا.
وزادت الحرب الروسية الأوكرانية الطين بلة، إذ ارتفعت أسعار الحبوب ارتفاعاً قياسياً وانعكس ذلك سلباً على الميزان التجاري الذي تفاقم عجزه. ولهذا أصبحت تونس تفكر جدياً في تحقيق اكتفائها الذاتي من الحبوب، وتجند كل إمكاناتها لذلك، وتبحث عن حلول بديلة لتوسيع مساحات الزراعات الكبرى من دون انتظار هطول الأمطار بكميات كبيرة مثلما جرت عليه العادة والعرف الفلاحي منذ آلاف السنين.
الحبوب والعلف
فبالإضافة إلى مناطق إنتاج القمح في الشمال والشمال الغربي والوسط، تم التفكير بثورة زراعية في الجنوب الصحراوي وتحويل المناطق القاحلة إلى جنان، ليس لإنتاج القمح فقط، بل حتى لتوسعة مساحات أشجار الزيتون، وذلك مع الطلب العالمي المتزايد على زيت الزيتون التونسي. وفي هذا الإطار وُضع الحجر الأساس لانطلاق مشروع إنجاز أكبر منطقة للزراعات الكبرى مع حلول سنة 2030، ويعتمد هذا المشروع على سحب المياه الجوفية من الصحراء واستعمال الطاقات البديلة والمتجددة على غرار الرياح والشمس كلياً، وذلك لتخفيض كلفة الإنتاج.
وتم التخطيط الجيد لهذا المشروع القابل للتحقيق على مراحل، وذلك بالاعتماد على الدراسات الفنية التي أُجريت، والتي أكدت أنه يمكن زراعة آلاف الهكتارات من القمح الصلب في هذه الأراضي التي كان يعتقد أنها صحراوية وقاحلة، وذلك في ولاية تطاوين بوابة الصحراء الكبرى الأفريقية في أقصى الجنوب التونسي. وتمت زراعة 6 أنواع من القمح الصلب في تجربة أولى لتعميمها في حال نجاحها، وذلك في إطار تنفيذ البرنامح الوطني لتحقيق الاكتفاء الذاتي من مادة القمح الصلب الذي يتم تحت إشراف المعهد الوطني التونسي للزراعات الكبرى والإدارة الجهوية للتنمية الفلاحية في ولاية تطاوين ومعهد المناطق القاحلة في الولاية.
كما مُنح صغار الفلاحين في الولاية الذين تتوافر لديهم مساحات مروية لا تتجاوز 5 هكتارات، بذوراً ممتازة من القمح الصلب مجاناً لبذرها في بداية الموسم الذي انتهى لتوّه. وبالتالي، وبالإضافة إلى البحث عن تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب، هدفت هذه المبادرة أيضاً إلى مساعدة الفلاحين على مواجهة أزمة الحبوب وإيجاد العلف لمواشيهم من تبن السنابل، وذلك بعدما تراجعت المراعي بسبب الجفاف.
وقبل أيام حصدت تونس بنجاح القمح الصلب من أولى تجاربها في زراعة الحبوب في الصحراء بالاعتماد على المياه الجوفية، وذلك في الحقل النموذجي والتجريبي في المنطقة المروية في سهل الرومان في ذهيبة، في تجربة نموذجية وفريدة سيتم تعميمها لاحقاً. وأشرف وزير الفلاحة على عملية الحصاد تلك، وشدد على ضرورة توسيع التجربة والاعتماد على الذات بالعمل والاستفادة من كل فرص الإنتاج المتاحة، ووعد بأن الدولة ستسعى لتوفير متطلبات الإنتاج وتحسين البنية الأساسية.
تجربة فريدة
وفي هذا الإطار يرى الخبير التونسي في الفلاحة والموارد المائية عبد المنعم بن عون في حديث إلى "النهار العربي"، أن تجربة زراعة القمح في الصحراء في تونس فريدة من نوعها ومبشرة بالخير في السنوات المقبلة، خصوصاً بعدما نجحت تونس سابقاً في خلق واحات في أعماق الصحراء على غرار واحة منطقة "رجيم معتوق" في ولاية قبلي التي أنجزها عناصر الجيش والطلبة. كما أن ما يُنجز في رمادة في الولاية نفسها والمتمثل في غرس أكثر من 420 ألف شجرة زيتون على مساحة 100 هكتار والذي من المبرمج التوسع فيه ليشمل 214 هكتاراً أخرى، يعتبر بحسب الخبير الزراعي التونسي مكسباً سيعزز طاقة إنتاج البلاد من زيت الزيتون الصحراوي، وسيساهم في بلوغ تونس نسق إنتاج مرتفعاً جداً يدعم مرتبتها الأولى أو الثانية على مستوى العالم من حيث الإنتاج والتصدير.
ويضيف بن عون: "لكن يبقى مشروع إنتاج الحبوب الصحراوية هو الذي يلفت الانتباه ويثير الإعجاب أكثر من غيره باعتبار صعوبة تحمل السنابل للطبيعة القاسية مقارنة بأشجار النخيل والزيتون، ورغم ذلك تم التغلب على هذه الصعوبات. وأكثر من هذا فإن وجود المشروع في الصحراء حيث الشمس الحارقة على مدار العام قد يمكن من الحصاد مرتين في السنة، خصوصاً إذا تم استعمال البذور التونسية التاريخية التي تم في السنوات الأخيرة استبدال أخرى بها من خارج البلاد، إنتاجها ليس بالوفرة الكافية وليست لديها القدرة على تحمل الظروف المناخية القاسية مثل البذور التونسية".
ورأى بن عون أن هذا المشروع أكد "قدرة ولاية تطاوين والولايات الجنوبية على غرار قبلي وتوزر ومدنين وغيرها على إنتاج الحبوب التي كانت حكراً على ولايات الشمال والشمال الغربي وبعض ولايات الوسط، وذلك بسبب توافر موارد جوفية من المياه، بخاصة في حوض غدامس الذي تشترك فيه تونس مع جيرانها ويقع جزء مهم جداً منه داخل أراضيها ولم يُستغل الاستغلال الأمثل. لذلك لا بد من توسيع هذه التجربة النموذجية خلال الموسم المقبل وتوفير كل متطلبات الإنتاج من آلات فلاحية وبذور وأسمدة وإرشاد فلاحي مع استغلال الآبار المائية المتاحة وحفر أخرى واستغلال محطات تحلية مياه البحر في بعض الولايات الجنوبية، مثل مدنين وقابس، لتطوير النشاط الفلاحي، وخصوصاً الزراعات الكبرى التي لم تعد حكراً على الولايات الشمالية المطيرة".