لا تتوقف تداعيات الفوضى السياسية والأمنية التي تعانيها ليبيا عند حد تردي الوضع الاقتصادي المحلي وتراجع مستوى المعيشة، بل امتدت لتهدد مصير عشرات المليارات من الدولارات تمثل قيمة أصول تملكها البلاد في الخارج، جمدها مجلس الأمن الدولي في عام 2011، ويرهن إلغاء قرار التجميد بوجود حكومة واحدة تعبّر عن الليبيين.
وقبل أيام قررت حكومة بوركينا فاسو تأميم "المصرف العربي الليبي للتجارة والتنمية" الذي أنشئ بالشراكة بين البلدين، ما دفع السلطات الليبية إلى البحث في مصير كل الأصول المجمدة في الخارج، والتي تُديرها المؤسسة الليبية للاستثمار.
تحذيرات بلا إجراءات
وهذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها أموال ليبيا في الخارج لخطر الضياع، وسط تحذيرات أطلقتها لسنوات أجهزة رقابية محلية بعدما طالت تداعيات الصراع السياسي شركات ليبية في الخارج، إضافة إلى الفساد والمحسوبيات التي تهدد مستقبلها المالي.
وكانت الأموال الليبية في الخارج تُقدر بقرابة 200 مليار دولار قبل بدء الصراع الداخلي، لكنها تناقصت على مدار العقد الماضي إلى 67 مليار دولار، وفق ما كان قد صرح به رئيس حكومة الوفاق الوطني السابقة فائز السراج.
ووفقاً لتقديرات المؤسسة الليبية للاستثمار، فإن الـ67 مليار دولار موزعة على محفظة طويلة المدى وشركة استثمارات خارجية ومحفظة أفريقيا وشركة الاستثمارات النفطية، ويتمثل نصف الاستثمارات في سندات وأموال سائلة، والنصف الآخر مكوّن من 550 شركة موزعة بين العالم العربي وأفريقيا وأوروبا، لكن معظم أصول المؤسسة السائلة تقع تحت الحظر الأممي "خشية الاستيلاء على هذه الأموال".
حسابات بوركينا فاسو
وكانت حكومة بوركينا فاسو قد عزت قرارها تأميم "المصرف العربي الليبي" إلى "ضمان حوكمة أفضل للبنك"، موضحة أنه "على مر السنين لوحظ عدم كفاية الدعم للبنك من طرف الجانب الليبي، والاكتفاء بتوفير حصته من رأس المال الاجتماعي". وأضافت أن هذا الغياب الليبي تحول في كثير من الأحيان إلى معارضة، وحتى إلى صراع بين المساهمين بشأن مواضيع مختلفة مثل اختيار المدير العام والإصلاحات الهيكلية التي تعترض عليها ليبيا دائماً حتى لو تأكد أنها ضرورية. كما أن كل المبادرات التي اتخذها الجانب البوركيني من زيادة رأس المال والدعم من حيث تعبئة الموارد وفتح رأس المال وتوفير الموارد في شكل حسابات جارية للمساهمين، رُفضت من الجانب الليبي.
في المقابل، استدعى قرار واغادوغو اجتماع رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة مع مدير المصرف الخارجي خالد القنصل الذي وصف قرار بوركينا فاسو بـ"الإجراء غير القانوني"، كاشفاً عن "جهود مع الجانب البوركيني من أجل تسوية قانونية". وأوضح القنصل خلال لقائه الدبيبة أن المصرف المشترك "أنشئ عام 1984 بالمساهمة بين المصرف الخارجي ودولة بوركينا فاسو برأسمال يصل إلى 18 مليون دولار وبنسبة 50 في المئة لكل طرف". كما دخل مجلس النواب الليبي على خط الأزمة، وعبرت لجنة الشؤون الخارجية في بيان عن بالغ قلقها على مصير الاستثمارات الليبية في أفريقيا. ودعت اللجنة النيابية السلطات في واغادوغو إلى التراجع عن قرارها والعمل المشترك من أجل التوصل إلى حل يحقق مصالح البلدين. وإذ شددت على ضرورة "حل الإشكال بالطرق الودية والحفاظ على حقوق المصرف الليبي الخارجي"، لوحت باللجوء إلى التحكيم والقضاء الدولي في حال فشل التوصل إلى تسوية.
لكن الخبير الاقتصادي محسن الدريجة أوضح أن "سبب الأزمة يعود إلى مطالبة الجانب البوركيني ليبيا بتمويل كبير لتنشيط دور المصرف الذي تم تأميمه والمساهمة في المشاريع التي تهدف الحكومة هناك إلى تنفيذها، فيما هذا المصرف لم يحقق النمو المأمول منذ تأسيسه قبل عقود، لذلك أعتقد أن من الأفضل لليبيا أن تتخارج من هذه الشراكة مع الحصول على تعويض، بدلاً من تسوية الأزمة واستمرار شراكة لا تحقق عائداً".
البعد السياسي في عهد القذافي
وأشار الدريجة لـ"النهار العربي" إلى أن البُعد السياسي كان حاكماً في توجيه نظام معمر القذافي الكثير من الاستثمارات الليبية، خصوصاً إلى دول أفريقية من دون تخطيط اقتصادي، و"من ثم فإن القيمة السوقية لهذه الاستثمارات تقلصت لأنها تتكبد خسائر، ما يدفع البلدان الحاضنة لهذه الاستثمارات إلى الاستيلاء عليها، وهذا حدث مرات عدة خلال السنوات الماضية"، مطالباً بـ"تقييم الأصول الليبية في الخارج ومن ثم العمل على دراسة جدواها والسوق الذي تعمل به ومستقبله ومخاطر الاستثمار فيه، لاتخاذ قرارات وخطة عمل متكاملة بشأن الاستمرار فيها مستقبلاً أو تصفيتها والتخارج منها"، كما لفت إلى "ضعف قدرة ليبيا في ظل الصراع السياسي على إدارة محفظة أصولها الخارجية والدفاع عنها".
وأوضح الخبير الاقتصادي عطية الفيتوري أن إدارة الاستثمارات الليبية في الخارج موزعة بين المؤسسة الليبية للاستثمار وتقارب استثمارتها نحو 70 مليار دولار، وكذلك مصرف ليبيا الخارجي المملوك للمصرف المركزي وتبلغ استثماراته نحو 25 مليار دولار وتضم محفظته مصارف في 23 دولة خارجية، بالإضافة إلى سندات الخزانة. واتفق مع الدريجة على كون ليبيا "أقدمت على الاستثمار في بيئات خارجية غير مستقرة ويشوبها الفساد، لأبعاد سياسية، وبالتالي خسرت بعض هذه الأصول والتي تقدر بمليارات الدولارت، والبعض الآخر مهدد بالضياع". ولفت الفيتوري لـ"النهار العربي" إلى أن "الفساد الإداري المحلي طاول الاستثمارات الخارجية، والتعيينات لإدارة الشركات والمؤسسات الخارجية تحكمها المحسوبية، وهناك تسريبات تخرج بين حين وآخر عن عمليات نهب تتعرض لها أموال هذه الشركات التي باتت أيضاً مكدسة بالموظفين بالمخالفة للوائح والقوانين الليبية"، مشيراً إلى أن "المؤسسة الليبية للاستثمار لا تخضع لرقابة مجلس النواب، ومجلس إدارتها يعينه مجلس الأمناء الذي يسيطر عليه وزراء حكومة الوحدة الوطنية والمصرف المركزي".
وأيد الفيتوري "استمرار تجميد أموال ليبيا في الخارج رغم ما يسببه هذا القرار من خسائر، لكن هذه الخسائر قد تتضاعف في ظل الصراع على السلطة والثروة وغياب الشفافية ودور المؤسسات الرقابية المحلية"، كما طالب بضرورة إفصاح المؤسسات والشركات الخارجية عن موازنتها ليتبين إذا كانت تحقق أرباحاً أو تتكبد خسائر.