رفعت القيود التي فرضتها أوروبا على استقبال المهاجرين غير الشرعيين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء مستوى القلق في ليبيا من حصول عمليات واسعة لتوطينهم. وتعززت المخاوف بعد الحديث عن توجه حكومي لتقنين أوضاع هؤلاء المهاجرين عبر اعتماد نظام الكفيل.
تعاون مع إيطاليا
وأعلنت إيطاليا، أكبر مستقبل للمهاجرين، خصوصاً القادمين من ساحل ليبيا، بلسان رئيسة حكومتها جورجيا ميلوني "تراجع أعداد المهاجرين غير النظاميين بنسبة 60 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، بفضل علاقات التعاون مع دول شمال أفريقيا، تونس وليبيا في المقدمة".
يأتي ذلك وسط معلومات عن سعي المهاجرين الذين يتخذون من ليبيا معبراً لهم إلى البحث عن وجهات نهائية جديدة، في ظل تشديد أوروبا إجراءتها الأمنية على سواحلها. وكانت المنظمة الدولية للهجرة في ليبيا قد أكدت أنها أحصت قرابة 700 ألف مهاجر من 45 جنسية ينتشرون في 100 بلدية ليبية، لكن مصادر حقوقية ومحلية معنية بالملف أكدت أن الأرقام الحقيقية للمهاجرين في ليبيا ربما تبلغ الضعفين، مشيرة إلى أنها استقبلت أكثر من 500 ألف سوداني فقط في أعقاب الصراع المشتعل في بلدهم.
ولفت هؤلاء إلى أن أعداداً كبيرة من المهاجرين يتجنبون الإفصاح عن هويتهم خشية ملاحقتهم وإعادتهم إلى بلادهم الأصلية، ناهيك عن انخراط المئات في أعمال الجريمة وعصابات العنف والتهريب. ويأتي هذا التباين في الأرقام وسط تصاعد التحذيرات الحقوقية المحلية والدولية من "انتهاكات مروعة" يتعرض لها المهاجرون في ليبيا.
ونهاية العام الماضي، أكدت منظمة "أطباء بلا حدود"، أن 61 في المئة من المهاجرين، تعرضوا للتعذيب في ليبيا، وأن 20 في المئة منهم خضعوا للعنف الجنسي داخل مرافق الاحتجاز الليبية، المكان الرئيسي الذي تقع فيه أعمال العنف.
وتنسجم هذه التقارير مع تصريحات صادمة أدلى بها مدير مستشفى صبراتة التعليمي أسامة الدحير، قبل أسابيع، وكشف فيها أن "ثلاجة الموتى في المستشفى تكتظ بجثث عشرات المهاجرين الذين عُثر عليهم على شواطئ المدينة". وتحدث الدحير عن ضعف الإمكانات الذي يعانيه المستشفى.
إلى ذلك، سلطت المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا، الضوء على إمكان مساومة الفرقاء السياسيين في ليبيا الدول الأوروبية على توطين المهاجرين في مقابل مكاسب سياسية، بعدما شنت في تقرير أخير لها هجوماً لاذعاً على السلطة المنقسمة في ليبيا لتنافسها على توظيف ملف الهجرة واللاجئين، كما حمّلت الاتحاد الأوروبي مسؤولية الانتهاكات التي يتعرض لها المهاجرون في ليبيا.
استغلال الملف لمصالح سياسية
وأشارت المؤسسة في تقريرها إلى أن الحكومتين المتصارعتين "تحاولان استمالة أطراف أوروبية لتحقيق مصالح سياسية وشخصية على حساب المصلحة الوطنية"، في تلميح مباشر إلى إمكان القبول بتوطين المهاجرين في ليبيا.
وأوضحت أن الانقسام "يغلب على تحركات الأطراف الليبية المتناحرة، ويُشكك في أهدافها الفعلية، كما يشي بتسييس قضية الهجرة واستغلالها لاستمالة أطراف أوروبية مهتمة بهذا الملف". ولفتت إلى "اتهامات توجه إلى جهات أمنية تابعة للحكومتين بارتكاب انتهاكات جسيمة في حق المهاجرين وعلى رأسها جهاز حرس الحدود المدعوم من بعثة الاتحاد الأوروبي والبعثة الأوروبية لمراقبة الحدود في ليبيا، سواء داخل مراكز الاحتجاز أم وسط البحر بعمليات اعتراض تهدد حياتهم، وإعادتهم قسرياً في سبيل الحصول على المزيد من المال والمعدات من أوروبا".
وأكد التقرير أن التحركات الحكومية "لا تنطلق من منطق حرص وطني على الحد من الهجرة ووقف تدفقاتها عبر الحدود الجنوبية، والضغط على الجانب الأوروبي لمساعدة ليبيا في تأمين حدودها البرية، بل لتوظيف الملف لتحقيق مصالح سياسية شخصية على حساب المصلحة الوطنية العليا، ولمصلحة الجانب الأوروبي الذي يتنصل من مسؤولياته". وحمل التقرير الاتحاد الأوروبي مسؤولية ما وصفه بـ"الفظائع والجرائم" التي يتعرض لها المهاجرون في ليبيا على يد شبكات التهريب وتجارة البشر والعصابات.
تصاعد الهجرة في الصيف
ورصد رئيس المؤسسة أحمد حمزة "تصاعد الهجرة غير الشرعية نحو ليبيا، بخاصة مع دخول الصيف الذي يسمح لشبكات التهريب والإتجار بالبشر بالنشاط أكثر"، لافتاً إلى أن "هذه التدفقات ستضع ليبيا أمام ضغوط أوروبية كبيرة وعالية للحد من تدفقات المهاجرين عبر السواحل الليبية وإعادتهم قسراً".
السياسي الليبي عبد المنعم اليسير رأى أن "هناك رغبة فعلية في توطين المهاجرين غير الشرعيين في ليبيا التي تعتبر منطقة عبور نحو أوروبا، فيما الاتحاد الأوروبي يعاني تلك المعضلة ويسعى إلى التخلص منها، وبالتالي فهو يعتقد أن ليبيا التي تعاني عدم استقرار هي مكان مناسب لتوطينهم"، محذراً في حديث لـ"النهار" من أن "توطين المهاجرين سيؤدي إلى تغيير ديموغرافي في ليبيا، ما يُشكل خطراً أمنياً ووجودياً على الدولة الليبية، إذ إنه مع مرور الوقت سيجد الليبيون أنفسهم أقلية في بلادهم، خصوصاً في الجنوب الذي يمتلك ثروات نفطية ومعدنية هائلة".
وأضاف: "ليبيا ليس لديها القدرة على أن تستوعب هذه الأعداد الكبيرة من المهاجرين وتستفيد منهم في ظل ضعف الدولة ومؤسساتها وتراجع قدرتها على توفير حياة معيشية مناسبة لمواطنيها"، لافتاً إلى أن معضلة تزاحم المهاجرين تتشابك أيضاً مع إشكالية عدم الاستقرار الأمني الذي سمح لبعض المجموعات باستخدام الملف مصدراً لتحصيل الثروة، كما أن هناك العمالة الوافدة بطرق غير قانونية، لذلك فإن القضية تحتاج إلى معالجتها معالجة متكاملة بداية من إحكام السيطرة على الحدود والمنافذ البرية، وبالتزامن وضع قوانين تُنظم وجود الوافدين على الأراضي الليبية وفقاً لإمكانتها.
واتفق اليسير مع التحذيرات التي أطلقتها المؤسسة الليبية لحقوق الإنسان على كون "الأطراف السياسية المتنافسة قد تُقدم على تقديم تنازلات في ملف التوطين في مقابل البقاء في السلطة"، مشدداً على أن "عدم انضمام ليبيا إلى اتفاقية حماية اللاجئين يجعلها غير معنية بأي التزامات دولية في هذا المجال، كما أن وضع ليبيا الانتقالي لا يسمح للمتحكمين في المشهد السياسي، والذين فقدوا شرعيتهم، باتخاذ أي قرارات ستكون لها تبعات جسيمة والتزامات لسنوات... مثل هذه الملفات تحتاج إلى برلمان منتخب وحكومة مستقرة تبحث فيها وتتخذ ما تراه مناسباً"، ومشيراً إلى أن أي التزامات قد تُفرض على ليبيا "ستكون معرضة للطعن أمام المحاكم الدولية ومجلس الأمن".
وكانت بعثة المنظمة الدولية للهجرة في ليبيا قد نظمت في نيسان (أبريل) الماضي دورة تدريبية لعدد من منظمات المجتمع المدني، خُصصت لملف مكافحة الإتجار بالبشر وتهريب المهاجرين، بهدف تعزيز خبرة المشاركين في التصدي للتحديات، وتزويدهم المعارف والمهارات الأساسية لتحديد المهاجرين المعرضين للإتجار والتهريب ومساعدتهم.