في وقت يحاول الخطاب الرسمي في المنطقة الترويج للعلاقات الجيدة بين بلدانها والرغبة في تطويرها، جاءت أزمة معبر رأس جدير لتكشف عن وجود أزمة صامتة بين تونس وليبيا تحمل العديد من العناوين.
وبعد طول ترقب من التونسيين والليبيين على حدّ سواء، لعودة معبر "رأس جدير" الحدودي لاستقبال المسافرين، بعد إغلاق دام أشهراً وعطّل مصالح الطرفين، منذ آذار (مارس) الماضي بسبب خلاف ليبي - ليبي، وتحديداً بين الأمازيغ وعماد الطرابلسي، وزير الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية الليبية، أعلن مساء الأربعاء عن توقيع اتفاق لاستئناف الحركة جزئياً اليوم الخميس على أن تستأنف كلياً بداية من 20 حزيران (يونيو) الجاري.
والأربعاء أعلنت وزارة الداخلية بحكومة الوحدة الليبية توقيع اتفاق بين الطرابلسي ونظيره التونسي خالد النوري، بإشراف رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبدالحميد الدبيبة، تضمن فتح البوابات المشتركة بالمنفذ وحل مشكلة تشابه الأسماء ، وعدم فرض أي رسوم أو غرامات مالية غير متفق عليها، وضبط المنفذ، وعدم وجود أي مظاهر مسلحة.
لكن هذا الإغلاق، الذي بدا في حينه نتيجة أزمة ليبية أمنية داخلية، تواصل أشهراً، وبرّر الطرف الليبي ذلك بأسباب عدة: إعادة تهيئة المعبر، وتنفيذ أشغال صيانة وتوسعة، وغير ذلك. لكن سرعان ما تبدّدت هذه التبريرات، لتظهر محلها خلافات بشأن ملفات أخرى مع تونس، كشفت عن وجود أزمة خفية بين البلدين.
في يوم الجمعة الماضي، أجرى الرئيس التونسي قيس سعيد مكالمة هاتفية مع الدبيبة، كان موضوعها استئناف الحركة في المعبر، وفق بيان الرئاسة التونسية. وكان سعيد قد اجتمع مع الدبيبة قبل أيام على هامش المنتدى العربي - الصيني في بكين، وتناول اللقاء بينهما استئناف الحركة في المعبر.
وأعلنت الجمارك التونسية في بيان لها الاثنين، عن عقد اجتماع الأحد الماضي مع مسؤولين ليبيين لمناقشة آليات إعادة فتح معبر رأس جدير أمام حركة المسافرين والبضائع، وتسهيل انسياب العبور في الاتجاهين. غير أن البيان الذي صدر عن حكومة الوحدة الليبية الجمعة، وشى بوجود أزمات أخرى بين البلدين، تتخفّى وراء أزمة المعبر.
شروط ليبية
جاء في البيان الصادر عن حكومة الوحدة الوطنية الليبية أن الدبيبة تابع خلال الاتصال الإجراءات التنفيذية لافتتاح معبر رأس جدير، وآلية تنظيم العمل بين الجهات المختصة في البلدين، "كما ناقش الجانبان أوضاع السجناء والموقوفين والمشتبه فيهم، وأكّدا ضرورة التعاون القضائي والأمني بين الأجهزة العدلية والأمنية في البلدين، وتطبيق المقررات المشتركة لذلك".
وبداية لم تسفر اجتماعات الأحد بين المسؤولين التونسيين والليبيين عن تقدّم في سير المفاوضات بخصوص عودة الحركة في المعبر، وفق مصطفى عبد الكبير، رئيس المرصد التونسي لحقوق الإنسان، الذي أكّد لـ"النهار العربي" أن الجلسة انتهت من دون التوصل لأي اتفاق.
يضيف عبد الكبير أن الجانب الليبي طرح ملفات أخرى بعيدة من السبب الأول لإغلاق المعبر، "ألا وهو وجود خلاف أمنى ليبي - ليبي، ووضع شروطاً أخرى، منها إطلاق سراح موقوفين ليبيين في السجون التونسية، علاوة على ملف الأموال المجمّدة لدى تونس، كما تحدث عن مسائل أخرى متعلقة بتهريب البنزين والرسوم على السيارات التونسية".
ويتابع عبد الكبير قائلاً إن تونس لن تقبل بالشروط الليبية الجديدة، موضحاً أن سير المفاوضات "حاد عمّا كان متوقعاً، ولا موعد محدداً لعودة الحركة في معبر رأس جدير، وهذا لا يخدم مصلحة المواطنين في البلدين".
من يسيطر؟
في المقابل، يقول المحلل السياسي الليبي حسام العبدلي إن المعطيات الميدانية في ليبيا مختلفة، "فمشكلة تأمين المعبر وفرض سيطرة السلطات الرسمية عليه هي السبب الأول الذي حال دون فتحه إلى غاية الأمس"، مضيفاً أن المعبر يخضع لسيطرة ميليشيات زوارة، والطرابلسي لم يكن ليقبل بفتحه الّا بعد بلورة خطة "لمنع كل عمليات التهريب عبره".
ويرى العبدلي في حديث لـ"النهار العربي" أن التهريب هو السبب الحقيقي لإقفال المعبر، "والدليل أن البنزين توفّر بكميات كبيرة في المنطقة الغربية منذ إغلاقه"، مشدداً على أن الحركة فيه لن تُستأنف "ما لم يتأكّد وزير الداخلية الليبي الذي قام بتغييرات كبيرة على مستوى الإطار المشرف على تسييره، من أنه صار تحت سلطة الدولة الليبية، ولن يكون منفذاً لنشاط التهريب".
ملفات عالقة
تحدثت تسريبات كشفتها تقارير صحافية ليبية عن شروط ليبية مقابل استئناف الحركة في المعبر، بينها الإفراج عن الأموال الليبية المجمّدة في البنوك التونسية، علماً أن هذا الملف من الملفات العالقة بين البلدين. وفور تولّيه رئاسة الحكومة في ليبيا في عام 2021، أصدر الدبيبة قراراً بتشكيل لجنة لمتابعة إجراءات رفع القيود عن أموال وممتلكات الليبيين المصادرة في تونس.
وبحسب مروان العباسي، محافظ البنك المركزي التونسي السابق، تتراوح قيمة الأموال الليبية المجمّدة في تونس بين 140 مليون دولار و150 مليوناً.
ومن الملفات الأخرى الشائكة بين البلدين، قوائم الموقوفين في تونس والممنوعين من دخولها بسبب شبهات إرهابية. وتقول الحكومة الليبية إن الأمر متعلق بتشابه في الأسماء، وتدفع نحو رفع الحظر عنها.
في المقابل، تطالب تونس ليبيا بسداد ديون لديها، وكان الدبيبة قد تعهّد خلال زيارته تونس بذلك، لكن من دون اتخاذ أي خطوة في هذا الاتجاه.
ليست الأولى
ومعبر رأس جدير هو أكبر معبر حدودي في المنطقة، ويكتسي أهمية كبرى للبلدين، إذ تعبره مئات السيارات يومياً في الاتجاهين. ويقع المعبر على بعد 32 كيلومتراً من مدينة بن قردان بمحافظة مدنين جنوب تونس، و40 كيلومتراً فقط من مدينة الزوارة الليبية، وقرابة 180 كيلومتراً من العاصمة الليبية طرابلس.
ليبيا هي الشريك الاقتصادي الأول لتونس، وتصدّر عشرات المصانع والشركات إليها سلعها، فيما تُعتبر تونس الوجهة الأولى لليبيين للعلاج وللسياحة، ويقيم فيها عدد كبير منهم منذ حوادث 2011.
ويستأثر هذا المعبر بنحو 80 في المئة من حجم التبادلات التجارية بين الدولتين، كما يقول عبد الكبير إن نحو 3 ملايين مسافر يعبرون سنوياً عبر رأس جدير، فيما يُقدّر عدد السيارات العابرة بالاتجاهين بين 7,000 و10,000 سيارة يومياً، ويتراوح عدد الشاحنات ذات الحمولة العالية والعابرة للقارات بين 200 و300 شاحنة يومياً.
وبين تونس وليبيا معبر حدودي ثانٍ أقل أهمية من معبر رأس جدير، وهو معبر الذهيبة وازن. فمعبر رأس جدير ليس منفذاً حدودياً بين البلدين فحسب، بل هو ورقة يلوّح بها في كل توتر يحدث بينهما. وسبق أن أُغلق بشكل أحادي خلال الأزمة الصحية التي مرّت بها تونس، كما كان في الثمانينات شاهداً على الأزمة السياسية التي اندلعت بين الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة والزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، وانتهت بطرد هذا الأخير آلاف التونسيين من ليبيا.