في القرن الرابع عشر، جال الرحالة المغربي ابن بطوطة دولاً عدة من عالم ذلك الزمان، حتى وصلت به رحلته إلى بلاد الصين. وعن تاريخها وحضارتها روى فصلاً في كتابه الذي كان خلاصة مشاهداته عن "غرائب الأمصار وعجائب الأسفار".
بعد ذلك، تطورت العلاقات وكانت طريق المغرب جزءاً من "طريق الحرير" التاريخية، وإن لم يكن أساسياً فيها، وهو ما لا ينطبق على الواقع الراهن، لا سيما أن المغرب يتمتع بموقع جغرافي استثنائي مع واجهتين بحريتين بطول نحو 3500 كلم، نحو ثلاثة آلاف منها على الأطلسي والباقي على المتوسط، يصل بينهما مضيق جبل طارق الاستراتيجي.
شراكة استراتيجية
شهد عام 2016 زيارة تاريخية للعاهل المغربي الملك محمد السادس لبكين، انتهت بإقامة شراكة استراتيجية بين البلدين. وكانت الترجمة العملية لهذه الشراكة في العام التالي، مع انضمام المغرب إلى مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، والتوقيع على مذكرة تفاهم تسمح للمملكة بإقامة شراكات ثنائية عديدة في قطاعات واعدة، مثل البنية التحتية، والصناعات المتطورة والتكنولوجية، لتكون بذلك أول بلد أفريقي يخطو هذه الخطوة.
صناعة السيارات من القطاعات التي تمتاز بها المغرب، وهي موطن لمصانع الإنتاج التابعة لشركتي "ستيلانتس" و"رينو" بطاقة إنتاجية سنوية تبلغ 700 ألف سيارة، وتصدرت قائمة الصادرات الصناعية بقيمة 14 مليار دولار في عام 2023.
في هذا المضمار، أعلنت شركة "غوشن هاي تك" الصينية عن بناء أول مصنع عملاق في أفريقيا لبطاريات السيارات الكهربائية بقيمة 1.3 مليار دولار، في القنيطرة شمالي الرباط، على أن يبدأ الإنتاج منتصف عام 2026. وهذا ما يسمح لصناعة السيارات المغربية بتلبية متطلبات المستقبل، إلى جانب الحفاظ على 220 ألف وظيفة في هذا القطاع وحده، بحسب ما أعلن هشام شودري، مدير الاستثمار بالوزارة المنتدبة المكلفة بالاستثمار في المغرب.
تطور متسارع
وعن انضمام المغرب رسمياً إلى مبادرة "الحزام والطريق"، يقول الدكتور ناصر بوشيبة، رئيس جمعية التعاون الأفريقي - الصيني لـ"النهار العربي" إن هذه العلاقة تقوم على مبادئ رئيسية، "هي الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، لا سيما وحدة التراب، والاعتراف بالقوانين الاقتصادية لكل بلد، والتزام الأنظمة المرعية".
ويشير بوشيبة إلى أن حجم التبادل التجاري قبل سنوات قليلة لم يكن ليتجاوز ملياري دولار، "والاستثمارات التي وُقّعت في الأسبوع الماضي تأتي في سياق مساعي الحكومتين لتطوير العلاقات التجارية والاقتصادية".
يلاحظ متابعو الشأن المغربي حجم التطوير في البنى التحتية، حتى بات يضاهي نظيره في أوروبا مع الحفاظ على التراث الخاص بالبلاد، من خلال المزج بين "الأصالة والحداثة". وترافق ذلك مع تخصص اليد العاملة في المجالات كافة.
وهنا، لا ينفي بوشيبة أن الموقع الجغرافي الاستراتيجي وطريق النمو الذي يسير فيه المغرب، مع العلاقات المميزة التي تربطه بدول أفريقيا، لا سيما الغربية منها، والدول العربية، عوامل ساهمت في جذب انتباه المستثمرين الأجانب، ومنهم الصينيون. ويستطرد موضحاً: "نظراً إلى عدم وجود مواد خام للطاقة مثل النفط والغاز، عمل المغرب على تطوير اقتصاده بشكل لا يعتمد على الطاقة من خلال تطوير الصناعات الكبيرة، كالسيارات التي بدأ بتصديرها، وتطوير قطاعي الزراعة والخدمات والبنى التحتية، مثل الموانئ".
وحدة التراب
والأمر لم يقتصر على ذلك، فقد حفّز نجاح المشاريع الداخلية المستثمرين الخارجيين. وفي هذا السياق، يضيف بوشيبة أن الاستقرار الأمني "كان من العوامل المهمة لتدفق الاستثمارات، بشقيها الداخلي والخارجي".
في المغرب مسألة "وحدة التراب" من المسائل التي تتصدر جدول الأولويات. وهنا، تحاول الصين الموازنة في موقفها، إذ نوّه السفير الصيني لدى الرباط لي تشانغ لين في آذار (مارس) الماضي بـ"التشابه بين السياسة المغربية والسياسة الصينية في التعاطي مع ملف الوحدة الترابية للبلدين". وأكد أن بلاده صوتت خلال السنوات الخمس الأخيرة "لمصلحة قرارات مجلس الأمن حول الصحراء"، مع التشديد على "الحل السياسي الدائم الذي يرضي كل الأطراف المعنية بالنزاع".
ومع الموقف الصيني هذا، حلّ بالمقابل فتور على العلاقات المغربية – الفرنسية. وفي هذا الخصوص يقول رئيس جمعية التعاون الأفريقي الصيني إن المغرب يسعى إلى تنويع شركائه الاقتصاديين. وبعد أن يستعرض تاريخ العلاقات المغربية - الفرنسية والتعقيدات التي تحيط بها تاريخياً، يشير إلى أن للثقافة الفرنسية تأثيراً عميقاً في الحياة المغربية، "ومع ذلك يرتكز المغرب على تاريخه الأفريقي والعربي".
علاقات تاريخيّة
بناءً على ذلك، لا يظن بوشيبة أن الصين ستحل محل فرنسا، "نظراً إلى العلاقة التاريخية والنخبوية بين المغرب وفرنسا، على الرغم من كل التوترات القائمة، ولا سيما أن الفرنسيين يحبون التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ويستخدمون خطاباً مشابهاً للذي كان سائداً في قرون الاستعمار".
في مقابل هذا كله، لا يمكن إغفال الاتفاقيات الحرّة الموقعة بين المغرب والأسواق العالمية، في أوروبا أو أفريقيا أو أميركا الشمالية، وهذا يتيح للصناعات الصينية الولوج إلى هذه الأسواق من البوابة المغربية. وهذا الأمر لا ينفيه بوشيبة، لكنه يعرض مقاربة أخرى في حديثه مع "النهار العربي"، مفادها أن الاستثمارات الصينية في أوروبا كبيرة جداً، تفوق تلك في أفريقيا. وعلى الرغم من ذلك، "ترتفع الأصوات في الغرب لتحذّر من التعاون الاقتصادي مع الصين على قاعدة حلال علينا وحرام عليكم، ويتبنون خطاباً عن الاستعمار الصيني الجديد وأن بكين سوف تتدخل بشؤون هذه الدول مستقبلاً"، بحسب بوشيبة، ليخرج بخلاصة أن ذلك غير ممكن نظراً إلى العلاقة النديّة القائمة والاحترام المتبادل.
وبعيداً عن الصراع الجيوسياسي الغربي الصيني المستجد على طول "الحزام والطريق"، فإن ما يثير انتباه المستثمرين والمهتمين بالشأن المغربي هو تعاظم قوة الطبقة الوسطى في المغرب، مع ما رافق ذلك من سرعة في تطوير البنى التحتية والخدمات العامة، حتى صحّت المقولة السائدة: "لا تستغرب، فأنت في المغرب".