زهرة النسرين أو النسري هي زهرة لها حكاية في تونس، تتميز بلونيها الأصفر والأبيض ورائحتها الفواحة، وحتى بمذاقها الفريد. وإذا كانت نبتة النسرين تنبت في أماكن كثيرة حول العالم، إلا أن مدينة زغوان التونسية تعتبر من أشهر المدن المقترن اسمها باسم الزهرة العطرية. فقد باتت تعرف بأنها "بلد النسري"، بالإضافة إلى أنها بلد المياه العذبة والحمامات المعدنية ومعبد المياه التاريخي الذي تنطلق منه قناة تاريخية عجيبة الهندسة لتسقي قرطاج وأهلها، ولا تزال آثارها قائمة إلى اليوم.
وتنتشر نبتات النسري في ما يعرف بجنائن زغوان ومنطقتي سيدي مريح وسيدي مدين، ومنها ما نبت طبيعياً ومنها ما زرعه مزارعو المنطقة، بالنظر إلى أهمية هذه الزهرة في حياة أهالي المدينة كعنوان للهوية وأيضاً كمصدر للربح المادي. فمثلما يتم تقطير الزهر والورد في نابل يتم تقطير النسري في زغوان ويتم استخراج زيته ومائه خلال شهر أيار (مايو). وتستعمل هذه الزيوت في إعداد الحلويات والمواد التجميلية.
حركية اقتصادية
يساهم النسري في إيجاد حركة اقتصادية متميزة وتحتفي به أغلب العائلات الزغوانية منذ عقود طويلة، وتحول التقطير إلى صنعة توارثتها هذه العائلات، ما ساهم في استمرارها وازدهارها. كما ساهم في هذا الازدهار الطلب الكبير على زيت النسري الزغواني من الشركات العالمية لإنتاج العطورات الفاخرة، وذلك على غرار ما يحصل مع ماء زهر النارنج وماء الورد في نابل.
ومن طقوس أهالي زغوان قطف زهرة النسرين في ساعات الفجر الأولى حتى يضمنوا جودة الزيت المستخرج ويحافظوا على رائحته الزكية. ويستخرج من هذه الزهرة عطر يعد المكوّن الأساسي لأشهر الحلويات في زغوان، وربما في كامل تونس على الإطلاق، وهو "كعك الورقة" العريق الذي توارث صناعته أهالي زغوان.
وهذا الكعك هو من الحلويات التونسية الفاخرة جداً التي يقبل عليها التونسيون في الأفراح والمناسبات المهمة وحتى في الأيام العادية، لونه أبيض ناصع، صحي قليل السكر ومحشو باللوز الأبيض المرحي المضاف إليه النسري والمغلف بورقة بيضاء ناصعة وناعمة من العجين، وكل قطعة منه هي بحجم سبابة اليد مضمومة إلى الإبهام في شكل دائري. ويتميز "كعك ورقة" بمذاقه الخاص بما أنه معطر بماء النسري، وهو ما جعل بعض شعوب جوار تونس تتعلم صناعته وتقبل عليه في السنوات الأخيرة وتزيد عليه بعض الإضافات التي أخرجته من شكله الأصلي وشوهته بهذا الإخراج الجديد.
صناعة الحلويات بمقطر النسرين
مهرجان كبير
وتحتفي زغوان بزهرة النسرين أو النسري بمهرجان كبير هو "مهرجان النسري" الذي ينظم بداية شهر حزيران (يونيو) من كل عام، أي مباشرة بعد انتهاء موسم التقطير. وتدعم هذا المهرجان كل من وزارة الشؤون الثقافية، والإدارة الجهوية للشؤون الثقافية بزغوان، والمؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية، وولاية زغوان، وبلدية زغوان وعدد من المنظمات الوطنية والمؤسسات.
ويعتبر الناشط في المجتمع المدني في جهة زغوان محمد البخاري في حديث إلى "النهار العربي" أن المهرجان يشهد كل عام برنامجاً متنوعاً وثرياً يشتمل على ندوات علمية يحاضر فيها كبار المختصين من المؤسسات الجامعية التونسية والأجنبية. فقد حضرت هذا العام، بحسب البخاري، جامعة برشلونة وممثلون عن منظمة اليونسكو، و"ذلك لما تزخر به زغوان من موروث ثقافي وحضاري مهم، فهي التي انضم إلى أهلها في عصر ما مهاجرون بأعداد كبيرة من مسلمي الأندلس الفارين من جحيم محاكم التفتيش في إسبانيا، وكذلك لما للنسري و"كعك الورقة" وغيرهما من أهمية كتراث لامادي للبلاد التونسية ككل".
ويضيف البخاري: "يتخلل المهرجان تنظيم معرض للتسوق وأنشطة مختلفة وعروض ثقافية وفنية على غرار العروض المسرحية والسينمائية والموسيقية، فقد تم هذا العام على سبيل المثال تنظيم عروض لمسرحيات جديدة ولأفلام تم تصويرها في زغوان. ويتم سنوياً تثمين الموروث الغدائي التقليدي لزغوان من خلال عرض مختلف الأكلات التي تميز الجهة، وشجع على ذلك تسجيل كعك الورقة بالنسري الزغواني التونسي ضمن قائمة الجرد الوطني للتراث اللامادي في انتظار تسجيله في اليونسكو".
كما تم هذا العام تنظيم زيارات لجبل زغوان للتعرف إلى آثاره التاريخية ومياهه العذبة الشهيرة وإلى حقول النسري بعد التخييم في عين المكان مع القيام بأنشطة جبلية. وحضرت أيضاً الأنشطة المخصصة للأطفال على غرار الورش الفنية المختلفة والعروض السينمائية المتعددة الأبعاد والأنشطة المتعلقة بالثقافة الرقمية والواقع الافتراضي. كل ذلك احتفاءً بالنسري وتثميناً لخصوصيات مدينة زغوان وحفاظاً على تراثها المادي واللامادي الذي يبدو بحاجة إلى حماية من عمليات السطو التي تستهدفه من بعض البلدان، خصوصاً في ما يتعلق بالموروث الغذائي، يختتم البخاري حديثه.