بعد الزيارة الأولى لرئيس تونسي لإيران منذ الثورة الإسلامية في العام 1979 قررت تونس إلغاء التأشيرة للإيرانيين الراغبين في زيارتها.
وكان الرئيس قيس سعيّد واحداً من عدد قليل من الرؤساء والزعماء العرب الذين شاركوا في مراسم تشييع الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي الذي قتل في حادث تحطم مروحية.
وأثار ما وصفه البعض بـ"الانفتاح التونسي المفاجئ" على طهران جدلاً واسعاً في تونس حيث تساءل كثيرون عن أسبابه وانعكاساته على العلاقات الخارجية للبلاد، وثمة من حذّر من خطورة هذه الخطوة والرسائل السياسية التي قد تفهم منها، وربما تزعج خصوصاً الشركاء التقليديين لتونس وفي مقدمتهم الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
ووفق القرار الذي أعلنته الخارجية التونسية سيُعفى الإيرانيون من إجبارية الحصول على تأشيرة لدخول تونس، قرار اعتبره البعض خطوة نحو فتح أبواب البلد السنّي على مصراعيه أمام المدّ الشيعي.
لكن تونس ليست الوحيدة التي اتخذت مثل هذا القرار، وهي كانت من ضمن 28 دولة أعلنت إيران في شهر شباط (فبراير) الماضي أن مواطنيها بإمكانهم زيارتها من دون تأشيرة، وهو ما اعتبره معلّقون "معاملة بالمثل".
وأغلب سكان تونس من السنّة المالكيين، ولطالما كان البلد بعيداً عن الصراعات المذهبية التي يخشى منتقدو هذا القرار الوقوع فيها إذا توسع الحضور الإيراني الشيعي في بلدهم.
السفير التونسي السابق أحمد بن مصطفى يؤكد لـ"النهار العربي" أن "هذه الانتقادات تدخل في باب المزايدة السياسية، لأن تونس بلد بعيد عن مثل هذه الصراعات ولا يمكن اختراقه تحت أي غطاء مذهبي".
علاقات متذبذبة
وتاريخياً كانت العلاقات بين تونس وإيران متذبذبة بين القطيعة والتواصل، وبين الفتور والتحسن، وفي فترة الثمانينات أيام حكم الرئيس الحبيب بورقيبة قطعت تونس علاقاتها الدبلوماسية مع طهران بسبب ما اعتبره الرئيس التونسي حينها دعماً إيرانياً للتيار الإسلامي ممثلاً براشد الغنوشي، الرئيس الحالي لحركة النهضة ورفاقه، لكن البلدين عادا ليفتحا صفحة جديدة مع وصول الرئيس السابق زين العابدين بن علي الى الحكم، إذ عاد في فترة حكمه الدفء للعلاقات الدبلوماسية من خلال تأسيس لجنة اقتصادية مشتركة تعقد أشغالها مرة كل سنة وتوقيع 20 بروتوكولاً للتعاون المشترك بين الطرفين مقابل قطع طهران علاقتها بالتيار الإسلامي التونسي.
غير أن الفتور عاد ليطغى من جديد على علاقات البلدين بعد حوادث 2011، بداية مع وصول الإسلاميين الى السلطة في تونس بعدما أظهروا تأييداً غير مشروط للثورة في سوريا، ثم مع انتخاب الباجي قائد السبسي رئيساً والذي كان يسير على نهج بورقيبة ويتبنى الثوابت الدبلوماسية نفسها.
قضية فلسطين جامعة
ومنذ وصوله الى الحكم بدا أنّ سعيّد يرغب في توطيد العلاقات مع الدول التي تشاركه الموقف نفسه من القضية الفلسطينية ومنها إيران.
ويساند سعيّد "محور المقاومة" وتعتبر القضية الفلسطينية من القضايا الأساسية التي ساهمت في صعوده عام 2019 إلى السلطة ودفعت التونسيين إلى التصويت له وهو القادم من عالم التدريس بلا سند حزبي أو سياسي. وظل الرئيس التونسي متمسكاً بموقفه الداعم للقضية الفلسطينية مع اندلاع الحرب في غزة، فلم يغب خطاب تجريم الحرب على القطاع عن خطابات سعيد وكل مشاركات المسؤولين التونسيين في المؤتمرات واللقاءات الدولية.
المزيد من التعاون الاقتصادي
وفي سياق التقارب بين تونس وإيران اتفق البلدان على توطيد العلاقات الاقتصادية بينهما من خلال دعوة اللجنة المشتركة الى الانعقاد من جديد، وإحياء الاتفاقيات الاقتصادية التي جُمد بعضها منذ أكثر من عقد.
وترتبط تونس وإيران بعدد من الاتفاقيات التجارية في مجالات مختلفة يعود بعضها الى فترة التسعينات من القرن الماضي، بعد عودة العلاقات بين البلدين في تلك الفترة، لكن هذه العلاقات ظلت محدودة أو شبه مجمدة.
وكان سعيد بحث ونظيره الإيراني (الراحل) رئيسي، تطوير الشراكة والعلاقات بين البلدين في مجالات عدة، لا سيما الاقتصادية وذلك على هامش القمة السابعة لمنتدى الدول المصدرة للغاز الذي انعقد في الجزائر أواخر شهر شباط (فبراير) الماضي.
ويقول مراقبون إن سعيّد الذي واجه ضغطاً غربياً باستعمال ورقة الدعم الاقتصادي بسبب التدابير الاستثنائية التي أقرها عام 2021 وأبعد بمقتضاها الإسلاميين وحلفاءهم عن السلطة، يبحث عن تنويع شراكات بلده وكسر الهيمنة الغربية عليه.
وتسعى تونس في الفترة الأخيرة لفتح آفاق شراكات جديدة مع كل من الصين التي زارها سعيد قبل أسابيع وروسيا، وهو ما اعتبره البعض رغبة واضحة في تعديل البوصلة بالتوجه نحو معسكر الشرق.
وتبادلت تونس الزيارات مع بكين وموسكو على أعلى مستوى، لكن الخطاب الرسمي التونسي يشدد دائماً على أن البلد لا يرغب في قطع علاقاته مع شركائه التقليديين بقدر ما يبحث عن فتح شراكات جديدة.
وقال الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إنّ وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي "قلقون من التقارب بين تونس والصين وروسيا وإيران"، ولم تكن تونس مدرجة على جدول أعمال اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي.
وردت سفارة تونس في بروكسل على هذه التصريحات مؤكدة، في بيان نشرته أمس، أنّ "تونس تقيم علاقاتها مع كافة شركائها باستقلالية تامة. وتظل متمسكة باتساق وإنجازات شراكتها مع الاتحاد الأوروبي، وتعمل على ضمان تكيف هذه العلاقة باستمرار مع التحديات والتغيرات المستمرة".
ويرى السفير السابق بن مصطفى إن هذا التقارب يأتي في إطار إعادة التوازن إلى العلاقات التونسية، معتبراً أن "تونس التي كانت تحت وطأة الضغط الغربي تسعى لكسر هذا الاحتكار المفروض عليها عبر التقليل من التبعية للكتلة الغربية على كل المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية".
ويوضح أن التحالف مع الغرب كان خياراً للرئيس بورقيبة الذي كان يفضل التوجه نحو ما كان يسميه "العالم الحر"، لكنه يستدرك مؤكداً أن "هذا العالم حاول أن يمارس عبر المنظمات والهياكل الدولية بما في ذلك المؤسسات المالية المانحة الهيمنة على الدول الضعيفة، وظهر ذلك جلياً بعد حوادث 2011 التي مست أكثر من بلد عربي، وتبين أن الغرب حاول توظيفها واستثمارها لمزيد من فرض الهيمنة على هذه الدول".
ويؤكد بن مصطفى أن الغرب ساهم في وصول الإسلام السياسي الى الحكم في تونس "وعبره مرر قوانين واتفاقيات تكرس هذه الهيمنة، لذلك كانت مواقفه معادية للرئيس سعيد عندما أعلن التدابير الاستثنائية ورفض مواصلة العمل بالسياسات نفسها".
وتسعى تونس دائماً لتأكيد ثوابت دبلوماسيتها الخارجية القائمة على عدم تدخلها في شؤون الدول الأخرى، والابتعاد عن سياسة الاصطفاف للمحاور.
لكن الدبلوماسي التونسي يرى أن" الحديث عن تقارب تونسي - إيراني في الوقت الحالي يظل نظرياً لأن الأمر يتطلب آليات لتجسيده على أرض الواقع".