اشتهرت مدينة القيروان التونسية، حاضرة الإسلام الأولى في شمال أفريقيا وعاصمة البلاد المغاربية زمن الأمويين والعباسيين وعاصمة دولة الأغالبة التي حكمت تونس وشرق الجزائر والغرب الليبي، بصناعات وحرف كثيرة على غرار الزربية أو السجاد القيرواني. كما عرفت مدينة القيروان، أو رابعة الثلاث بعد مكة والمدينة المنورة والقدس الشريف، كما يسميها بعضهم، بصناعة حلويات المقروض التي انتشرت منها إلى أنحاء تونس وكامل البلاد المغاربية.
أشكال متعددة
والمقروض في شكله التقليدي هو عجين مُعدّ بوصفة خاصة ويتخذ شكل المعين الرباعي الأضلاع من خلال قالب خشبي خاص، ويتم حشوه بالتمر ثم قليه في الزيت ،وبعد ذلك يُحلّى بالعسل الطبيعي أو بالسكر المسال. أما اليوم فقد أصبحت للمقروض أشكال متعددة، فهناك المقروض المقلي والمقروض المطهو في الفرن، وثمة المقروض المحشو بالتمر والآخر المحشو باللوز أو بالفستق أو بشتى أنواع الغلال أو بالشوكولا أو بغيرها مما يستطيبه اللسان ويحلو مذاقه.
المقروض التونسي.
وجاءت تسمية المقروض من جذر "ق ر ض"، لأن المقروض يتم قرضه قرضاً، لكن في بعض البلدان في محيط تونس، التي وصل إليها المقروض من خلال القيروان ودولتها الأغلبية تم تحريف كلمة مقروض المشتقة من اللغة العربية إلى مقروط أو مقرود. كما أدخلت تغييرات على شكله، لكن تم الاحتفاظ بفكرته الرئيسية وهي حشو عجين السميد بالتمر أو بغيره وتحليته بالعسل أو بالسكر المسال بعد عملية القلي أو الطهو في الأفران.
ويتشكل المقروض القيرواني التونسي من المنتوجات الرئيسية للزراعة التونسية وهي القمح والتمر وزيت الزيتون التي تم دمجها جميعاً لتنتج هذه الحلويات الرائعة التي يقبل عليها التونسيون وزوار القيروان من خارج تونس. فالمقروض هو أحد عناوين هوية تونس القيروانية بحدودها القديمة والثرية بعديد المكونات الأخرى، وبالتالي هو ليس فقط مجرد حلويات يقبل على أكلها التونسيون وغيرهم.
صيت خارجي
يقول المؤرخ الأندلسي الحسن الوزان في كتابه "وصف أفريقيا" إن "أهل تونس طيبون للغاية ومحبّبون كثيراً، ويلبس صناعها وتجارها وأئمتها وجميع موظفيها هنداماً جميلاً لائقاً. وكما تتنوع مطاعم سكان أهل تونس تتنوع حلوياتهم، ومنها المقروض الذي يصنع من السميد والتمر والعسل والبهارات ويقلى في الزيت".
ويضيف الوزان: "جاءنا أبو جعفر بالمقروض وأتحفنا بمذاقه المميز وقد كان يلح علينا أن نقرض من المقروض أو قل يفرض علينا. فنأكل حتى نكاد نأتي على ما في العلبة وهو يرغّبنا في الاستزادة ويقص علينا حكاية العالم المغربي الذي زار تونس وأكل المقروض فاستطابه فقال: عجبت لأهل تونس كيف ينامون وفي بيوتهم المقروض".
وتنتشر محال صناعة المقروض وبيعه في مدينة القيروان العتيقة في أسواقها تحديداً، وقد اشتهر الكثير من هذه المحال وأصبح لها صيت خارجي ورُواد من خارج مدينة القيروان وعموم تونس، سواء من التونسيين أو من غيرهم. كما تعد بعض العائلات المقروض القيرواني في البيوت واشتهرت أيضاً عائلات عريقة بهذه الصناعة التقليدية الغذائية التي باتت ضمن التراث اللامادي لتونس، وهو ما يقتضي تسجيلها للحفاظ عليها وحمايتها من الاندثار والسطو.
المقروض الزمني
يعتبر الناشط المدني في مجال الحفاظ على التراث سيف الدين الشواشي في حديث إلى "النهار العربي" أن "المقروض هو تراث لامادي تونسي انتشر في محيط تونس المغاربي مع دولة الأغالبة في القيروان، ويتشكل من منتجات تونس الزراعية وهي القمح وزيت الزيتون والتمر والعسل. وقد تطورت أشكاله بمرور الزمن، لكن بقي المقروض التقليدي صامداً ويسمى في القيروان بالعامية التونسية "المقروض الزِمْني" أي الذي يعود إلى قديم الزمان، ويختلف قليلاً عن المقروض العصري الذي قام فيه البعض بتعويض التمر باللوز والفستق والغلال وغيرها".
ويضيف الشواشي: "أمام عمليات السطو على المقروض، ومحاولات بعضهم نسبته إلى أنفسهم على غرار مكونات أخرى لا تُحصى للتراث اللامادي التونسي، متجاهلين حقائق التاريخ والمراجع والحجج الدامغة، بات لزاماً على الدولة التونسية أن تسعى لتسجيله وحمايته. فبعد سنوات قد لا يجد شعب قرطاج عناوين لهويته ولا ما يميزه عن غيره إذا استمر السطو على تراثه بهذه الوتيرة التي برزت بخاصة بعد الثورة، مع شعور بعضهم بحالة الوهن التي أصبحت عليها تونس والتي لن تدوم طويلاً بإذن الله".
ويدعو الجهات الرسمية إلى "العمل أكثر في الدفاع على تاريخ تونس وتراثها وهويتها ومعاضدة بعض نشطاء المجتمع المدني في بعض الجمعيات والمنظمات، وبعض المدونين والناشطين في الفضاء الافتراضي في الصفحات ومواقع التواصل الاجتماعي. فبالأمس تم استهداف "عصيدة الزقوقو" و"كعك الورقة" وغيرها من الحلويات، واليوم يتم استهداف المقروض، ويعلم الله غداً ما الذي سيتم استهدافه للقضاء على الهوية التونسية وعلى قوت التونسيين ورزقهم ومصدر دخلهم باعتبار حاجة تونس لتراثها المادي واللامادي للترويج السياحي".