مع دخول فصل الصيف تكثر المهرجانات والعروض الثقافية والفنية وحفلات الزواج وختان الصبيان في تونس، ويكثر مع هذه المناسبات الإقبال على مشموم الفل والياسمين الذي تشتهر به البلاد وذاع صيته عالمياً، حتى عُرفت تونس، بالإضافة إلى اسمها القديم قرطاج وكنية الخضراء، ببلد الفل والياسمين. كما يكثر الإقبال على الاستمتاع بهذا العطر من سُمار الليالي في المقاهي.
والمشموم لمن لا يعرفه، هو باقة صغيرة جميلة من أزهار الياسمين أو الفل أو كلاهما معاً، يتم جمعها بعناية فائقة وبطريقة يتقنها التونسيون وتوارثوها عبر الأجيال وجعله بعضهم في السنوات الأخيرة منتوجاً سياحياً.
وتمر صناعة المشموم بمراحل تبدأ بقطف أزهار الفل والياسمين من الحدائق في ساعات مبكرة من الصباح وقبل بزوغ الشمس، ثم يتم وضع هذه الأزهار في الماء لترتوي خشية عليها من الذبول. وأخيراً يتم جمعها معاً وربطها بخيط في الأعلى يدور حول ورقات الفل والياسمين، فيما يتم من الأسفل إسنادها إلى جذع يتشكل من أعواد صغيرة ورفيعة، وذلك من خلال الخيطان بمهارة فائقة فيها الكثير من التمرس.
صناعة تقليدية
وصناعة المشموم هي من الصناعات التقليدية التونسية العريقة وتنتمي إلى التراث اللامادي الثري جداً، وتم الحفاظ عليها وتوارثتها الأجيال وأتقنت صناعتها وأضافت إليها تفاصيل كثيرة، فظهرت أشكال متعددة منها الباقات الكبيرة الحجم التي تزينها في الوسط زينة حمراء والمخصصة لحفلات الزواج والمناسبات الخاصة، وكذلك تلك المخصصة للاحتفالات السياسية وغيرها. وكان الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة يعشق مسك باقات الياسمين والفل أو المشموم، الكبيرة الحجم، لاستنشاق عبيرها، خصوصاً في فصل الصيف في مدينة المنستير، مسقط رأسه، وذلك في مناسبة بعض العروض والاحتفالات التي كانت تقام له.
وقد عرفت بعض المناطق في تونس بالياسمين أكثر من غيرها ومنها رادس أو ماكسولا القرطاجية كما كانت تسمى في الماضي، وهي بلدة قريبة من تونس العاصمة تقيم سنوياً مهرجاناً للياسمين ذاع صيته محلياً وخارجياً. وقد دخلت البلدة موسوعة غينيس للأرقام القياسية، وذلك بعدما صُنعت فيها أكبر باقة للمشموم في العالم من خلال استخدام أكثر من 23 ألف زهرة ياسمين بالتمام والكمال، وهو ما ساهم في الترويج السياحي لمنتوجها.
كما عُرفت أيضاً مدينة الحمامات السياحية الساحلية بزهر الياسمين وأقيم فيها منتجع سياحي كبير بداية هذه الألفية سمي "المحطة السياحية ياسمين الحمامات"، وأقيم فيها أيضاً مهرجان سينمائي دولي سُمي "مهرجان الياسمين في الحمامات". وعرفت أيضاً مدينة المنستير بالياسمين وكذلك البلدات القريبة منها التي تتبع ولايتها على غرار قصر هلال والمكنين وطبلبة ولمطة، وتنتمي كل هذه المناطق إلى جهة الساحل التونسي في الوسط الشرقي للبلاد.
مصدر دخل
وذاع صيت مشموم تونس وفلها وياسمينها خارج حدود البلاد حتى أصبح مطلوباً في بلدان أوروبية عديدة على غرار فرنسا وإيطاليا حيث يباع هناك، سواء للتونسيين المغتربين أم للأوروبيين الذين يأخذهم الحنين إلى صيف تونس العطر. كما يجد المشموم رواجاً في بعض بلدان شرق آسيا حيث اهتمام خاص بالصناعات التقليدية التونسية ومنها قفص عصافير سيدي بوسعيد على سبيل المثال المستوحى من أشكال هندسية وشحت مباني قرطاج، والذي أصبح منتوجاً منسوباً إلى بعض هذه البلدان التي سعت إلى تسجيله في لائحة اليونسكو للتراث.
والمشموم بات مصدر دخل مهماً لأعداد متزايدة من التونسيين، سواء تعلق الأمر بالزارعين أم بالمصدرين إلى خارج البلاد أم بالحرفيين صانعي هذه الباقات البيضاء الجميلة أم بالباعة.
رمز وطني
يرى فيصل الذوادي الباحث التونسي في التراث في حديث إلى "النهار العربي" أن المشموم هو من الصناعات التقليدية الأصيلة التي لا تندثر، باعتبار إقبال التونسيين عليه وعشقهم له. كما أن الإقبال عليه، بحسب الذوادي، يتواصل أيضاً على مدار العام، وذلك في المناسبات الخاصة والرسمية على حد سواء، حيث صار وجوده تقليداً لدى كثير من المشرفين على تنظيم الاحتفالات والاستقبالات الرسمية.
ويضيف الباحث التونسي أن "هذا الإقبال على المشموم واقتران رائحته عند بعض التونسيين وزوار البلد من الأجانب، برائحة تونس، جعله أحد عناوين الهوية، إضافة إلى عناوين أخرى ترمز إلى الخضراء بلد الياسمين والفل وتميزها عن غيرها. ونتيجة لهذه القيمة الرمزية للمشموم فقد تغنى به فنانون تونسيون كثر في أغان شهيرة بقيت خالدة إلى يومنا هذا، كما تغنى به وبتونس فنانون غربيون عشقوا الخضراء وصيفها الجميل وبحرها الساحر ومشمومها العطر".