سرّعت الجزائر خطاها لبلوغ الاكتفاء الذاتي من القمح الصلب والبقوليات الجافة والبذور. ويبدو أن الهدف صار اليوم قريب المنال، بعد إنتاجها 80 في المئة من حاجتها السنوية خلال هذا الموسم. فوفقاً لتصريحات أدلى بها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أمام أعضاء المجلس الوزاري، سمح الإنتاج الوفير من القمح الصلب خلال الموسم الحالي بتوفير 1.2 مليار دولار لخزينة الدولة الجزائرية.
لبلوغ هذا الهدف الاستراتيجي، أبرمت الجزائر اتفاقات شراكة أجنبية كبيرة، آخرها اتفاق لتنفيذ مشروع لإنتاج القمح الصلب والبقوليات الجافة والبذور والعجائن في محافظة تيميمون في الجنوب الجزائري، على بعد نحو 1400 كيلومتر من الجزائر العاصمة، باستثمار قيمته 420 مليون دولار. ينفّذ هذا المشروع بالشراكة مع شركة "بونيفيكي فيراريزي" (Bonifiche Ferraresi-BF)، إحدى أكبر الشركات الزراعية في إيطاليا، ويُقام على مساحة تقدّر بـ 36 ألف هكتار، ويسمح باستحداث أكثر من 6700 فرصة عمل.
شراكات استراتيجية
وفقاً لإحصائيات استعرضها يوسف شرفة، وزير الفلاحة الجزائري، ينتج هذا المشروع المتكامل 170 ألف طن من القمح الصلب، و6 آلاف طن من العدس، و11 ألف طن من الحمص، إضافة إلى أنواع أخرى من العجائن والبذور.
هذا المشروع الثاني من نوعه، بعد الأول الذي أُبرم مع شركة "بلدنا" القطرية لإنتاج الحليب واللحوم والأعلاف، والذي بلغت قيمته 3.5 مليارات دولار. ويندرج في إطار خطة "ماتاي" الاقتصادية للحكومة الإيطالية الموجّهة إلى أفريقيا، والتي تضمّ مجموعة من المشاريع للتعاون الإنمائي والاستثمار من أجل تعزيز الحضور الإيطالي في القارة السمراء. وينص الاتفاق على إقامة مشروع منظومة فلاحية صناعية متكاملة في مدينة أدرار الصحراوية بتكلفة تقدّر بـ 3.5 مليارات دولار، ويتربّع على مساحة إجمالية تقدّر بـ 117 ألف هكتار مكونة من 3 أقطاب، على رأسها مزرعة الحبوب والأعلاف.
فهل تستعيد الجزائر عصر القمح الذهبي بفضل هذه الثورة في إنتاج الحبوب والبذور وإصرارها على إنتاج القمح الصلب؟
استعادة المبادرة
يقول العابد بكاري، الباحث في الشؤون الاقتصادية، إن الجزائر كانت بين عامي 1725 و1815 مموّن أوروبا بالقمح والمؤن الغذائية، إلى أن خلفتها أوكرانيا في هذه المهمّة منذ عام 1816، مضيفاً لـ"النهار العربي": "السؤال الفعلي اليوم: هل تستعيد الجزائر عصر القمح من أوكرانيا؟".
يجزم بكاري أن الجزائر قادرة على تحقيق هذا الرهان، "لا سيما إذا أخذنا في الحسبان الشراكات المبرمة، فهي أمر يثمّن وله جوانب إيجابية عديدة أهمها نقل التكنولوجيا والاستفادة من تكوينات وتربصات الإطارات المحلية، والتحكّم في التقانة في المجالات الفلاحية وطرق الري والسقي ونوعية البذور المستعملة"، مشدّداً على ضرورة الاعتماد على الإمكانيات المحلية في الاستثمار الفلاحي، باعتباره الأضمن والأوفق، "وذلك بتوسيع المساحات الفلاحية في الجزائر في الشمال مع إنجاز 10 آلاف بئر خلال 6 أعوام مقبلة، مع بناء المنشآت القاعدية اللازمة والاعتماد على مختلف الآلات الزراعية المتطورة، من مسيّرات، وتوصيل الكهرباء، وتوفير الأسمدة والبذور الملائمة للمنطقة، واستكمال قاعدة بيانات رقمية تسمح بإحصاء الأراضي الزراعية، وإنجاز تطبيقات إلكترونية تزود الإدارة بمعطيات حول عدد الفلاحين والموالين وتربية المواشي، وحصر المساحة المزروعة بدقة، وهذا ما يمكن من إنتاج مليونين إلى ثلاثة ملايين طن من القمح في الجنوب، فضلاً عن ضرورة تقويم ثقافة الاستهلاك للمواد الاستراتيجية".
الاستثمار أولوية
ويؤيّده الدكتور عبد الباسط بومادة، من قسم العلوم الزراعية في جامعة ورقلة، في الرأي ويقول لـ"النهار العربي" إن الاتفاقيات الدولية مع إيطاليا وقطر يمكن أن تؤدي دوراً مهماً في هذا الاتجاه، "حيث يمكن أن توفّر هذه الشراكات التقنية والخبرات والموارد اللازمة لتحسين الإنتاجية والجودة في القطاع الزراعي".
يبقى الاستثمار الفلاحي في الجنوب الحل الأنجع حالياً لتحقيق الرهان الزراعي. يقول بومادة: "يشهد إنتاج الحبوب في الجزائر تبعية مفرطة للأمطار، فمساحة الجزائر شاسعة تشكّل المناطق الصحراوية ثلثيها، وبالنظر إلى المخزون الهائل من المياه الجوفية في هذه المناطق المتمثلة في الطبقة البينية القارية على مساحة 600 ألف كيلومتر مربع وبحجم يفوق 50 ألف مليار متر مكعب، إضافة إلى طبقات جوفية أخرى، فيمكن المناطق الصحراوية أن تجسّد الاكتفاء الذاتي، وبالتالي تحقيق الأمن الغذائي في الجزائر، لا سيما إذا ذُلّلت العقبات أمام المستثمرين في المجال الزراعي، حيث تساهم المناطق الصحراوية حالياً في 27 في المئة من الإنتاج الزراعي الوطني، ويمكن أن تتضاعف هذه النسبة ثلاثة أضعاف إذا تضافرت الجهود لمرافقة الفلاحين والمستثمرين من أجل التغلّب على المعوقات".
ختاماً، يربط بومادة الأمن الغذائي بالأمن المائي، فيحثّ على ترشيد استهلاك المياه في القطاع الفلاحي باستعمال الطرق الحديثة للري المقتصدة للمياه، وحسن استغلال المياه المستعملة بمعالجتها واستعمالها في السقي، من أجل تحقيق أحد بنود التنمية المستدامة.