دق تقرير حقوقي ناقوس الخطر محذراً من ارتفاع، وُصف بـ"الصادم"، لمعدلات الانتحار في ليبيا، مدفوعاً بسنوات الصراع المسلح التي عايشتها البلاد وتأثيرها على الصحة النفسية والعقلية. وكانت وزارة الداخلية الليبية قد كشفت في إحصائيات أصدرتها قبل أسبوع عن تسجيل 44 حالة انتحار في 15 بلدية ليبية خلال النصف الأول من العام الجاري، مؤكدة "ارتفاع حالات الانتحار خلال العام الحالي مقارنة بالسنوات الماضية". لكن تقريراً أخيراً للمؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا، اعتبر أنه "يصعب الاعتماد على هذه الإحصائية المحدودة، لبناء تقييم شامل وواضح لأسباب هذه الظاهرة ودوافعها، بسبب شح البيانات المنشورة عن قضية خطيرة تخص دولة عاجزة حتى عن تنفيذ إحصاء سكاني عام لمعرفة عدد سكانها".
وأضافت المؤسسة الحقوقية أنه "على رغم عدم توافر إحصائيات رسمية دقيقة، إلا أن تتبع هذه الإحصائيات المحلية إلى جانب أرقام منظمة الصحة العالمية التي تُشير إلى بلوغ معدل الانتحار في ليبيا 4.5 حالات لكل 100 ألف نسمة عام 2019، ينذر بتمدد صامت للظاهرة، يقابله انعدام أساسيات التعامل معها بسبب قلة التوعية وغياب ثقافة العلاج النفسي، ونقص أدوية الطب النفسي، وقلة مراكز الطب النفسي، ويرجع كل ذلك إلى انشغال السلطات بالصراع والنهب، وعدم الالتفات إلى هذه الظاهرة البالغة الخطورة على حياة المواطنين".
وأكد التقرير الحقوقي أن "سنوات الصراع والنزاعات المسلحة في ليبيا، وما حملته من أزمات ومعاناة إنسانية كبيرة، خلفت آثاراً كارثية على الصحة النفسية والعقلية للسكان، خصوصاً الفئات الأكثر ضعفاً وتأثراً بالأزمات وهي النازحون داخلياً والنساء والفتيات والأطفال والسجناء وضحايا التعذيب، مع ثبوت الصلة الوثيقة ما بين الضغوط النفسية والاكتئاب النفسي والنزاعات والعنف العام والأسري والتعذيب والتهديد والابتزاز الإلكتروني بالسلوك الانتحاري".
أسباب رئيسية
وعزت المؤسسة أبرز الأسباب الرئيسية التي تُشكل دافعاً رئيسياً للانتحار الى الضغوط النفسية والاجتماعية والاقتصادية والآثار السلبية للنزوح والحروب والأزمات المعيشية، والابتزاز الإلكتروني للفتيات والنساء بسبب ضعف الرقابة على هذه الوسائل التي باتت إحدى أدوات الإجرام، لافتة إلى أن "ضعف الوازع الديني، وضيق الأفق في الأمل وروح التفاؤل، من بين أسباب الانتحار وأيضاً المشكلات والأزمات الاجتماعية والأسرية والنفسية والاقتصادية التي يعانيها عدد كبير من الأسر والعائلات، وكذلك الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، ومن بين أسباب الانتحار تعاطي المخدرات والمؤثرات العقلية".
وانتقدت المؤسسة "اعتماد الجهات المعلِنة عن بيانات الانتحار في ليبيا على الترويج لغيبيات، وتغييب العقل والمنطق المطلوبين بإلحاح في التعامل مع القضايا المتعلقة بأرواح المواطنين، حيث أرجعت رئيسة لجنة دراسة ظاهرة الانتحار في وزارة الشؤون الاجتماعية هند الفايدي تزايد الحالات المسجلة لجملة من الأسباب، بينها أعراض المس الشيطاني والسحر، وهذه ليست المرة الأولى، إذ سبق أن نسبت مديرية أمن الجبل الأخضر انتشار ظاهرة الانتحار بين شباب المدينة إلى مشعوذ يبعث برسائل لضحاياه، في عجز عن توصيف حقيقة الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تصاعد هذه الظاهرة الخطيرة على المجتمع الليبي وتشخيصها". ونبهت أيضاً إلى أن "الأشخاص الذين تراودهم أفكار انتحارية أو نجوا من محاولات انتحار يجدون أنفسهم محاطين ببيئة مفتقرة إلى الوعي، تحاصرهم بالوصم الاجتماعي، وسلطات فاسدة تقذفهم بالمزيد من مسببات الضغوط النفسية، وتحرمهم حقهم في الحصول على العلاج والرعاية الطبية اللازمة".
خطوات مطلوبة
وشدد التقرير على أن "هذه الظاهرة من الظواهر السلبية والخطيرة في أي مجتمع، وتستوجب إيجاد حل عاجل لها وتحديد أسباب الانتحار وعدم التعامل مع أسبابها بسطحية وعدم واقعية، ما يستدعي العمل من خلال الجهات المختصة بإجراء دراسة شاملة على هذه الظاهرة وأسبابها ووضع استراتيجيات لمعالجتها، مطالباً جميع السلطات الرسمية وكذلك مؤسسات المجتمع المدني، بالتحرك العاجل وتكثيف الجهود والعمل المشترك من خلال إجراء الدراسات والبحوث الدينية والاجتماعية والنفسية والعلمية لتحديد الأسباب الحقيقة وراء أسباب الانتحار، كما يجب على السلطات المختصة إنشاء مصحات للطب النفسي والعمل على مقاومة أعمال الشعوذة والسحر، والتركيز على الدروس الدينية والتوعية والتثقيف الصحي النفسي والاجتماعي، وكما يقع على الإعلام المحلي المسموع والمرئي ومنظمات ومؤسسات المجتمع المدني، مسؤولية التحذير من هذه الظاهرة وتوضيح مخالفاتها الإنسانية والدينية".
ويتفق أستاذ الطب النفسي رمضان المصراتي مع ما نبه إليه التقرير الحقوقي كون ثمة عوامل اجتماعية واقتصادية ودينية تتداخل وتؤدي إلى ارتفاع معدلات الانتحار. وقال: "على رغم أن الأرقام تشير إلى تصاعد في الظاهرة، لكن معدلاتها في ليبيا تبقى أقل معدلات على المستوى الإقليمي والدولي"، لكنه أضاف: "السؤال الذي تجب الإجابة عنه لماذا خلال الفترة الأخيرة تتصاعد معدلات الانتحار في البلاد؟"، موضحاً أن "ظاهرة الانتحار هاجس يؤرق العالم ومن المعروف أن من بين العوامل سيطرة سلطة مستبدة على بلد ما قد يدفع شبابها إلى الانتحار، ناهيك بالظروف الاقتصادية، فكلما زادت الضغوط المعيشية ترتفع معدلات الظاهرة، وهناك أيضاً عوامل شخصية قد يتعرض لها المُقدم على الانتحار كالابتزاز وكذلك هناك عوامل اجتماعية كاضطرابات العلاقات الأسرية والتفكك العائلي"، مشدداً لـ"النهار العربي" على أنه "كلما تصاعدت عوامل اليأس ارتفعت معدلات الانتحار".
وأضاف المصراتي: "هناك عوامل مرضية كالإصابة باضطرابات الشخصية والاكتئاب وكذلك الصرع، والتي قد تدفعهم إلى الانتحار هرباً من الألم النفسي، كما أن هناك عديداً من حالات الأمراض المزمنة التي تؤدي إلى اضطرابات نفسية، ناهيك بتعاطي المخدرات"، لافتاً أيضاً إلى خطورة انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وعدد من الألعاب الإلكترونية والتي تشجع مستخدميها على الذهاب إلى الانتحار، مطالباً كل المؤسسات المحلية الثقافية والتعليمية والدينية تكثيف جهودها وتنسيقها للحد من تصاعد تلك الظاهرة، كما طالب بضرورة الاهتمام بالدعم النفسي للحالات الحرجة أو التي قد تظهر عليها علامات تشير إلى إمكان إقدامهم على الانتحار.