تنظّم تونس في 7 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل انتخاباتها الرئاسية الخامسة منذ "ثورة 2011"، في ظلّ أجواء متوترة لا يخفي جميع الفاعلين السياسيين مخاوفهم من أن تُلقي بظلالها عليها.
إجرائياً، بعد أشهر من الغموض والجدال، بدأت ملامح هذه الانتخابات تتضح، إذ كشفت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن تفاصيلها، بدءاً بشروطها وانتهاءً بأجندتها. تشرع الهيئة في تلقّي مطالب الترشح لهذه الانتخابات في نهاية تموز (يوليو) الجاري، وفق ما كشفت عنه قبل أيام، على أن يُعلن عن القائمة النهائية للمرشحين في بداية أيلول (سبتمبر).
أما سياسياً، فتشكّل هذه الانتخابات ساحة جديدة للمعركة المحتدمة بين قوى المعارضة من جهة، والرئيس قيس سعيد وأنصاره من جهة أخرى، إذ تصاعدت حدّة الخطاب السياسي بينهما في الفترة الأخيرة. ففيما تحاول المعارضة توظيف الحدث للتأكيد على أن البلد يسير نحو "الحكم الانفرادي"، يصرّ الرئيس سعيد وأنصاره على أنها محطة جديدة وفارقة لـ"كنس" ما تبقّى مما يُعرف بمنظومة حكم 24 تموز (يوليو) ومحاسبة الفاسدين من رموزها، في إشارة إلى من حكموا تونس بعد حوادث عام 2011.
سعيد يحذّر
قبل أيام، نبّه سعيد، الذي يُعتبر أبرز المرشحين للفوز بهذا السباق مع أنه لم يعلن ترشحه بعد، من مخططات قد تُحاك ضدّ الانتخابات، وذلك لدى استقباله وزير داخليته خالد النوري، متحدثاً عمّا سمّاه "محاولات تأجيج الأوضاع بشتى الطرق"، مما يتطلّب "مضاعفة الجهود وفرض احترام القانون ضدّ كل محاولات توتير الأوضاع الاجتماعية أو محاولات اللوبيات التأثير من وراء الستار في العملية الانتخابية".
ومنذ 25 تموز (يوليو) 2021، أعلن الرئيس سعيد التدابير الاستثنائية في تونس، وحلّ مجلس النواب السابق، وأبعد الإسلاميين وحلفاءهم عن الحكم، ومضى في تطبيق خريطة سياسية جديدة شملت صوغ دستور جديد وتنظيم انتخابات تشريعية وإرساء مجلس تشريعي ثان. وستكون الانتخابات الرئاسية المقبلة تتويجاً لهذا المسار الذي رفضته المعارضة، وأعلنت مقاطعة كل محطاته، بسبب ما تقول إنه "انفراد بالحكم واستيلاء على جميع السلطات".
المعارضة تصعّد
تشكّل هذه الانتخابات تاريخاً مهمّاً بالنسبة إلى المعارضة التونسية، فهي تراهن على هذا الحدث للبحث عن موقع جديد لها في الداخل والخارج، بعدما فقدت الكثير من شعبيتها في العامين الأخيرين.
ومنذ أشهر، وحتى قبل الإعلان عن تاريخ الانتخابات الرئاسية، بدأت هذه المعارضة تصعّد خطابها ضدّ السلطة، مشكّكة أولاً في نية سعيد إجراءها، ومتحدثة لاحقاً عن انتخابات "على المقاس تغيب عنها أجواء المنافسة والنزاهة".
فالمعارضة تتهم السلطة بالتضييق على العمل السياسي وعلى المعارضين، وتقول إن "المناخ الحالي متوتر وليس ملائماً لإجراء انتخابات شفافة ونزيهة قائمة على التنافس"، في إشارة إلى ملاحقة عدد من المعارضين السياسيين والإعلاميين والناشطين قضائياً. وكان القضاء التونسي قد باشر قبل أشهر حملة اعتقالات واسعة شملت سياسيين وكوادر أمنية ورجال أعمال وإعلاميين في تهم مختلفة.
يقول رئيس "ائتلاف صمود" حسام الحامي إن المناخ الحالي "المتوتر" ستكون له تأثيرات كبيرة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، مشيراً إلى الجدال الذي سبق الانتخابات، من إصدار "المرسوم عدد 54" الذي اعتقل بموجبه العديد من المعارضين والناشطين السياسيين والإعلاميين، "وكان مطية للتضييق على الحرّيات".
يضيف الحامي لـ"النهار العربي" إنه يخشى من أن تتحول هذه الانتخابات إلى "انتخابات صورية" بسبب ما وصفه بالتضييق على المرشحين المعارضين لسعيد، "وبالتالي لن يرغب التونسي فى المشاركة فيها".
وبحسبه، يأتي تنظيم هذه الانتخابات وسط تواصل المحاكمات السياسية والملاحقات القضائية للمعارضين، وبينهم مرشحون للانتخابات، فذلك يقلّص عدد المرشحين للانتخابات، "فلا تكون عرساً انتخابياً كما يفترض بها أن تكون"، كما يقول، مضيفاً: "لن نشهد مرشحين يقدّمون برامجهم الانتخابية ويقومون بحملات انتخابية كما يجب، فهناك مناخ يسوده الخوف بدأ يتوسع، وستكون له تداعيات على سير هذه الانتخابات".
يكرّرون الأخطاء نفسها
تنفي السلطات الاتهامات التي يسوقها الحامي، وتؤكّد أن مقاضاة الموقوفين السياسيين لا تهدف إلى إقصائهم أو تخويفهم، إنما تأتي في سياق تطبيق القانون.
ويقول المحلل السياسي مهدي المناعي لـ"النهار العربي" إن المطلب الأول الذي رفعه التونسيون ليلة 25 تموز (يوليو) 2021، بعد إسقاط منظومة الحكم السابقة، هو محاسبة من تورطوا في قضايا الفساد والإرهاب وأضرّوا بالبلد، "فادعاءات المعارضة مردودة عليها، لأن من شملتهم الملاحقات هم ممن ثبت تورطهم في هذه القضايا".
ويلفت إلى أن المعارضة تصرّ على وصف المناخ الحالي بـ"المتوتر"، بينما "ترفض القيام بمراجعات ذاتية، وتكرّر أخطاءها السابقة بترشيح أسماء قديمة نبذها التونسيون، وتحوم حولها شبهات فساد"، لافتاً إلى أن هذه الانتخابات "إثبات جديد على احترام سعيد لكل ما وعد به التونسيين، وستكون تتويجاً لمسار 25 تموز، وأتوقع أن يقع بعدها تركيز المحكمة الدستورية".
شروط تعجيزية
تعتبر قوى المعارضة التونسية أن فرض شروط جديدة للترشح لهذه الانتخابات "دليل واضح على أنها لن تكون نزيهة"، منتقدة "تغيير قواعد اللعبة في السنة الانتخابية، من أجل استبعاد الخصوم الجدّيين".
فمنذ أشهر، احتدم الجدل حول شروط الترشح للرئاسة في تونس، مع إعلان هيئة الانتخابات عن التوجّه إلى فرض شروط جديدة تتعلق بنقاء السجل العدلي وعدد التزكيات التي يفترض أن يحصل عليها كل مرشح، سواء من النواب أم من التونسيين أنفسهم.
يصف الحامي هذه الشروط بأنها "تعجيزية"، ويقول: "لا يمكن تعديل شروط الترشح للانتخابات بمقتضى أمر ترتيبي يصدر عن هيئة الانتخابات في حين أن الدستور ضبطها".
وبحسبه، هناك شرطان أساسيان يدور حولهما جدل كبير: "الأول متعلق بنقاء السجل العدلي للمرشح وهذا منطقي، لكن شرط الاستظهار بالبطاقة عدد 3 سيحول دون تمكّن عدد من المرشحين من تقديم مطالبهم". ويضيف: "أما الشرط الثاني فهو تجميع التزكيات على المرشح أن يحصل عليها من المواطنين وقدّر عددها بـ 10 آلاف تزكية، تجمع من 10 دوائر انتخابية، بمعدل 1000 تزكية عن كل دائرة، أو تحصيل تواقيع 10 نواب من البرلمان".
يؤكّد الحامي أن تجميع هذا العدد من التزكيات في ثلاثة أسابيع "شبه مستحيل بالنسبة إلى الكثير من المرشحين"، فيما يرى المناعي أن هذه الشروط منطقية، إذ ستغلق الباب أمام ترشحات غير جدّية وأمام متورطين في قضايا فساد، مضيفاً: "شاهدنا سابقاً كيف بلغ مرشحون متهمون بالفساد وتبييض الأموال الدور الثاني من الانتخابات، وكانوا على قاب قوسين أو أدنى من حكم تونس"، مؤكّداً أن العديد ممن تحوم حولهم شبهات الفساد وجدوا في الترشح للرئاسة ذريعة للإفلات من المحاسبة، "كي تبدو محاكمتهم وكأنها محاكمة سياسية، وهذا ما تسعى المعارضة للترويج له".