هل أُبرم اتفاق بين الفرقاء الليبيين برعاية أميركية لتقاسم الثروة؟ سؤال بلا إجابة حاسمة متداول في الساحة الليبية خلال الأيام الأخيرة.
ووفقاً للمعلومات التي حصل عليها "النهار العربي"، فإن محادثات غربية قادتها واشنطن مع الأطراف الليبية المتصارعة على السلطة والثروة، شهدت ضغطاً لتوحيد الموازنة العامة الليبية وتقاسم مواردها بين الحكومتين المتنازعتين في شرق البلاد وغربها.
وبدا واضحاً أن عراب هذا التحرك هو محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير، فبعد أيام قليلة من لقائه في القاهرة رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، مرر البرلمان بالغالبية أضخم موازنة في التاريخ الليبي، وصفت بـ"الموحدة لكل ليبيا".
وكان مجلس النواب قد صوّت خلال جلسة عقدها في 10 تموز (يوليو) الجاري في مدينة بنغازي (شرق ليبيا)، بالموافقة على اعتماد موازنة هي الأكبر في تاريخ ليبيا بقيمة 179 مليار دينار (نحو 30 مليار دولار)، بعدما أضاف إليها مخصصات بلغت قيمتها نحو 98 مليار دينار، في خطوة عُد الهدف منها تغطية إنفاق حكومة الشرق الموازية برئاسة أسامة حماد التي سارعت إلى التأكيد أن الموازنة التي مُررت "موحدة لكامل التراب الليبي"، من دون أن توضح آلية تقاسمها مع حكومة عبد الحميد الدبيبة المسيطرة على العاصمة طرابلس، ولا تفاصيل الموارد المحتملة لتغطية الإنفاق الضخم، وسط توقعات بأن يبلغ مستوى العجز في الموازنة معدلات قياسية.
صراع دستوري على الصلاحيات
وبينما التزم الدبيبة الصمت حيال الخطوة، جاء إعلان المجلس الأعلى للدولة برئاسة محمد تكالة رفضه تمرير الموازنة ليظهر أن الاتفاق لم يأت برضا كامل من معسكر الغرب الليبي. وعزا المجلس قراره في بيان إلى "مخالفتها الدستورية، فضلاً عما اكتنفها من مخالفات في الشكل والمضمون"، من دون أن يوضح تفاصيل تلك المخالفات، وسط تلويح من أعضاء المجلس بأن تمرير مجلس النواب الموازنة من دون العودة إلى الأعلى للدولة "ينسف محاولات الترتيب للقاء ثلاثي يجمع تكالة وصالح بحضور رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي لمناقشة أزمة الانتخابات المعطلة". واعتبر عضو المجلس الأعلى للدولة سعد بن شرادة أن الموازنة التي أقرها النواب "تكرس الانقسام السياسي في البلاد، باعتبار أنها تتعامل مع حكومتين بموازنتين منفصلتين".
ولم يتوقف السجال عند هذا الحد، إذ خرج رئيس مجلس النواب في تصريحات هاجم فيها تكالة، مطالباً إياه بأن "يعطينا نص قانون واحد يعطي مجلسه صلاحية إقرار الموازنة". وأوضح أنه وفقاً للاتفاق السياسي، فإن مجلس النواب هو السلطة التشريعية الوحيدة في البلاد في المرحلة الانتقالية. وأضاف: "ما يقوله الرئيس الأعلى للدولة لا أساس له من صحيح القانون. هناك نصوص صريحة وليس فيها أي إشارة إلى مشاركة مجلس الدولة في إصدار قانون الموازنة، كما يلاحظ في معظم الدول ذات الأنظمة البرلمانية أن مجلس النواب هو صاحب الاختصاص في إقرار الموازنة دون غيره من المجالس الأخرى".
تساؤلات بشأن العجز والإنفاق
الخبير الاقتصادي الليبي وحيد الجبور أوضح لـ"النهار العربي" أن "الموازنة الضخمة تحمل العديد من علامات الاستفهام، إذ إنها جاءت بعد تحذيرات عدة أطلقها المصرف المركزي ورئيسه حول تضخم الإنفاق والعجز المتصاعد، كما لم يتم الإفصاح عن آلية توزيع هذه الموازنة على الحكومتين المتصارعتين والمؤسسات المنقسمة، وهل سيُسمح للأجهزة الرقابية بمتابعة هذا الإنفاق غير المسبوق، كما أنه لم يتم توضيح ما إن كانت هذه الموازنة ستنعكس على رفع الرواتب في ليبيا لتتماشى مع التضخم المتصاعد وانهيار العملة من عدمه".
ورأى أن "هذه الموازنة ستؤدي إلى زيادة في عرض النقود في السوق ورفع الطلب على العملة الأجنبية، وبالتالي استمرار تصاعد التضخم، كما يتوقع أن ترفع مستوى الدين العام، خصوصاً في ظل تباين أسعار النفط في السوق العالمية"، مطالباً بإعادة النظر في هذه الموازنة "في إطار مراجعة شاملة للسياسات النقدية في البلاد والتي تسببت في زيادة معدلات الفقر".
وإذ أشاد أستاذ الاقتصاد عطية الفيتوري بدمج إنفاق الحكومتين في موازنة موحدة، وبالتالي تشديد السياسة النقدية وإنهاء الإنفاق الموازي، لفت إلى أن "إيردات الدولة الليبية ستبقى على حالها ولن يتم زيادتها".
وأكد الفيتوري حاجة ليبيا لزيادة الإنفاق على التنمية ومشاريعها، بهدف رفع مستوى النمو الاقتصادي، لكنه اتفق مع ما طرحه الجبور، من أنه "في ظل الوضع الاقتصادي المتراجع وشكوى محافظ المصرف المركزي من الإنفاق وارتفاع العجز في العملة الأجنبية خلال الستة أشهر الأولى من هذا العام بنحو 9 مليارات دولار، فمن أين سيتم تمويل هذه الموازنة وتغطية العجز المتصاعد؟".
تحذيرات من ارتفاع التضخم
ولفت أيضاً إلى أن "الموازنة لم توضح حجم الدعم الحكومي، خصوصاً للمحروقات، وما إن كان سيتم الإبقاء على آليته الحالية أو ستتحول ليبيا إلى الدعم النقدي". وحذر من أن تضخم الموازنة "سيؤدي إلى ارتفاع مستوى التضخم في ظل زيادة السيولة، وكذلك زيادة الطلب على العملات الأجنبية، وبالتالي ارتفاع أسعار صرفها في السوق الموازية"، متوقعاً "ارتفاع العجز في الموازنة وزيادة الدين العام وانخفاض الاحتياطي، إلا في حال زيادة إنتاج ليبيا من النفط عن المعدل الحالي (في حدود مليون و200 ألف برميل يومياً)، مع استقرار أسعاره في الأسواق".
أما رئيس اللجنة المالية في مجلس النواب النائب عمر تنتوش فأوضح أن الموازنة "موحدة لكل ليبيا، مخصصة لكل الإنفاق العام في الدولة، بما في ذلك المشاريع، وتتيح للجهات الرقابية مراقبة كل أوجه الصرف"، مشيراً لـ"النهار العربي" إلى أن تضخم الموازنة كان لا بد منه لأسباب عدة، على رأسها "التزامات على الدولة الليبية لمصلحة شركات تُنفذ مشاريع لم يتم تسديدها، بالإضافة إلى زيادة في رواتب التقاعد والضمان الاجتماعي، وهناك رواتب لم يتم صرفها لشهور، وكذلك هناك إفراجات جمركية عديدة معطلة". ولفت إلى "تحفظات عدة لنواب البرلمان في شأن أوجه الصرف، تعهد محافظ المصرف المركزي بمعالجتها".