تعاني شواطئ الضاحية الجنوبية لمدينة تونس منذ سنوات عديدة تلوثاً كبيراً باتت معه غير صالحة للسباحة وهجرها التونسيون والزوار الأجانب، هي التي كانت تعمر بالمصطافين خلال فصل الصيف، وبعشاق التنزه على الشواطئ في باقي الفصول. ويتعلق الأمر بشواطئ رادس والزهراء وحمام الأنف وحمام الشط التي كانت مقصد العائلة الملكية السابقة وحاشية الملك وكبار رجال الدولة للاصطياف، وذلك قبل إطاحة النظام الملكي سنة 1957 وإعلان تونس جمهورية.
مياه الصرف الصحي إلى البحر في وادي مليان
كما كانت رادس التي كانت تسمى ماكسولا في الماضي البعيد، الميناء الرئيسي الذي يصل من خلاله سكان تونس القديمة القادمين من الجنوب ومن الغرب إلى مدينة قرطاج التي كانت جزيرة يحيط بها البحر من كل الاتجاهات قبل أن يتراجع البحر مع الزمن، مخلفاً بحيرة تونس وسبخة أريانة ويحصل الترابط بين منطقتي قمرت ورواد طبيعياً، وبين تونس وحلق الوادي من خلال الطمر وإنشاء طريق تشق بحيرة تونس. وبالتالي ازدهرت رادس ماكسولا بالتوازي مع قرطاج وكان بحرها مضرب الأمثال في النظافة والجمال، وهو الذي تشرف عليه غابة كثيفة شأنه شأن شاطئ حمام الأنف الذي يشرف عليه جبل بوقرنين وغابته الوارفة الظلال.
مسؤولية الدولة
ولعل من حظ الضاحية الجنوبية السيئ أن دولة الاستقلال استثمرت في السياحة في الضاحية الشمالية حيث مدن المرسى وقمرت وسيدي بوسعيد وقرطاج وحلق الوادي، فيما ركزت المناطق الصناعية في الضاحية الجنوبية والمناطق المحيطة بها على غرار تونس الغربية وجبل الوسط من ولاية زغوان وغيرها، فكانت النتيجة أن الضاحية الشمالية حافظت على جمالها ونظافة شواطئها واشتهرت في شتى أنحاء العالم كوجهات عالمية جاذبة للسياح، فيما تدهور الوضع البيئي في الضاحية الجنوبية وأصابها التلوث وهجرها المصطافون والسياح.
ويحمل أبناء الضاحية الديوان الوطني للتطهير، وهو المؤسسة الحكومية التابعة لوزارة البيئة التي عهدت إليها مهمة التصرف في مياه الصرف الصحي والمياه الصناعية، المسؤولية عن هذا التلوث. فالديوان لا يقوم بواجبه ويصب المياه الآتية من المنازل والمصانع في وادي مليان الذي يصب مباشرة في بحر الضاحية الجنوبية.
اعتداء سافر
وترى الصحافية التونسية المتخصصة في الشأن البيئي ليندا مقديش أنه كان من المفروض أن تزيل محطة معالجة المياه المستعملة في رادس التابعة لديوان التطهير المواد الملوثة من المياه المستعملة من خلال عمليات عدة، يمكن في نهايتها إعادة استعمال المياه أو سكبها في البحر وهي نظيفة وغير ملوثة، ويكون ذلك على خمس مراحل. لكن ما يحدث، بحسب الصحافية التونسية، مخالف لذلك تماماً، باعتبار أن محطة رادس لا تقوم بالمعالجة بتاتاً لمياه المناطق الصناعية في ولاية بن عروس ولمياه المنازل، وتسكب هذه المياه مباشرة في وادي مليان الذي يصب بدوره في البحر.
وتضيف مقديش: "ضخّ ديوان التطهير مياهاً مستعملة في وادي مليان تخص منطقة تونس الغربية من خلال ربط محطة التطهير بالعطار بمحطة رادس، فأضافت مياهاً منزلية وصناعية جديدة إلى وادي مليان وشواطئ الضاحية الجنوبية. كما أن مصانع المنطقة الصناعية في جبل الوسط من ولاية زغوان، وهي ولاية مجاورة لولاية بن عروس التي تقع رادس ضمن دائرتها، تسكب مياهها المستعملة في وادي مليان أيضاً.
وتضيف: "نتيجة لهذا الاعتداء السافر على البيئة، والذي يحدث من دون رادع، تغير لون البحر تغيراً لافتاً، وأصبح أهالي الضاحية الجنوبية التونسية، سواء في رادس أم في الزهراء أم في غيرها، يشتمّون روائح كريهة. كما ظهرت كائنات بحرية جديدة ودخيلة على النظام البيئي الخاص بالمنطقة. وأدى التلوث أيضاً إلى انقراض كائنات عديدة حتى شهد الأهالي نفوق سلحفاة البحر على شواطئ الضاحية الجنوبية".
محطة جديدة
ويرى البعض أن أفضل الحلول لمعالجة هذه الكارثة البيئية هي إصلاح محطة التطهير في وادي مليان ودفعها إلى الالتزام بكل مراحل المعالجة، والاستفادة أيضاً من المياه المعالجة في ري الأشجار والنباتات في الحدائق العمومية. كما يجب بحسب هؤلاء، تحميل وزارة البيئة المسؤولية لتضرب بقوة على أيدي المصانع التي تتحصل على دعم عمومي من الدولة لمعالجة المياه فيما هي لا تقوم بذلك، بخاصة أن مفتشي وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي والوكالة الوطنية لحماية المحيط لديهم صلاحيات مهمة في هذا المجال.
ويرى الناشط في المجتمع المدني في المجال البيئي وليد الزيناوي في حديث إلى "النهار العربي" أنه بالإضافة إلى إصلاح محطة رادس مليان، لا بد من إنشاء محطة معالجة جديدة تتكفل بمعالجة المياه الآتية من مصانع جبل الوسط وبئر مشارقة من ولاية زغوان. ولا بد برأيه من العمل على إعادة استخدام الجزء الأكبر من مياه الصرف الصحي المُعَالَجة وتجنب صبها في البحر، بخاصة في ظل الشح المائي الذي تعانيه تونس والمنطقة بوجه عام نتيجة للاحتباس الحراري.
ويضيف الزيناوي: "لقد تم الشروع فعلياً في إعادة إحياء شواطئ الضاحية الجنوبية من خلال التخلص من الحجارة التي أُنشئت في التسعينات لمنع تقدم مياه البحر باتجاه المناطق المأهولة بالسكان، وهو ما سيفتح المجال أمام التيارات المائية ليحصل المد والجزر الطبيعي الذي سيساهم في تنظيف البحر. وبالتالي وجب إيجاد حل آخر لمنع تقدم مياه البحر غير تغذية الشاطئ برمال جديدة على غرار ما حصل في الحمامات والمنستير، وذلك في انتظار انطلاق العمل الفعلي لمحطة رادس للقيام بدورها وإنشاء محطة جديدة خاصة في ولاية زغوان".