إذا كانت الشكوك تتصاعد في إمكان إجراء الانتخابات البلدية الليبية مع انتهاء فترة تسجيل الناخبين، وما أظهرته من تراجع في الإقبال وسط شكوى مستمرة من ضعف التمويل، تبقى لهذا الاستحقاق أهمية كبيرة، إذ سيكون له دور في رسم ملامح صورة المستقبل في البلاد.
ويمثل إنجاز الاستحقاق اختباراً لانفتاح الفرقاء على الذهاب إلى صناديق الاقتراع، وكذلك من الناحية الأمنية، للقدرة على تأمينه، ومدى تدخل السلاح المتفلت في توجيهه. فمن قد يتسبب في تعطيله هل سيسمح بانتخابات تشريعية ورئاسية مطلوبة محلياً ودولياً؟
سيكون الاقتراع اختباراً يحدث للمرة الأولى لموازين قوى أطراف السلطة المنقسمة في الشارع، ومدى قدرة كل طرف على إثبات هيمنة أنصاره على مناطق سيطرته، بل قدرته على اختراق مناطق سيطرة خصومه، رغم سيطرة قوة حضور القبائل والعشائر على البلديات في العالم العربي عموماً، وفي ليبيا خصوصاً.
وإذ ستتوجه الأنظار إلى قياس شعبية أنصار النظام السابق ونجل زعيمه الراحل سيف الإسلام القذافي، والمناطق التي استعاد فيها نفوذه بعد 13 عاماً من أحداث شباط (فبراير) 2011، سيختبر الاقتراع أيضاً شعبية الجماعات الدينية الأيديولوجية، على رأسها "إخوان" ليبيا وسلفيوها، ومدى قدرتهم على لعب دور صانع الملوك في الانتخابات الرئاسية عندما تُجرى.
ومن المقرر أن يتم الاقتراع على مرحلتين: الأولى في 60 بلدية موزعة بين 31 في المنطقة الغربية، و12 في المنطقة الشرقية، و17 في المنطقة الجنوبية، على أن تُجرى المرحلة الثانية في 46 بلدية عقب إعلان النتائج النهائية للمرحلة الأولى، في النصف الثاني من الشهر المقبل.
ونشرت المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، الأحد، القوائم الأولية لأسماء المسجلين في سجل الناخبين، مع فتح الباب أمام تلقي الشكاوى أمام لجان التظلمات، وذلك بعدما كانت قد أعلنت الأسبوع الماضي إغلاق الباب أمام تسجيل الناخبين للمرحلة الأولى حيث بلغ عدد المسجلين 210 آلاف و545 ناخباً، بينهم 149 ألفاً و233 من الرجال، و61 ألفاً و312 من النساء، وفق بيان للمفوضية الذي اعتبر أن هذا العدد "فاق التوقعات نسبة إلى عدد سكان البلديات الـ60 التي ستجرى فيها المرحلة الأولى". وأشارت المفوضية إلى أنها "حرصت على إتاحة فرصة التسجيل لمواطني البلديات المستهدفة للمشاركة في العملية الانتخابية من خلال التمديد لفترتين زمنيتين متتاليتين، ما حقق إقبالاً ملحوظاً، وذلك دليل على ارتفاع مستوى الوعي لدى مواطني تلك البلديات بأهمية المشاركة وممارسة حق التصويت واختيار من يمثلهم في دوائر صنع القرار"، داعية إلى "التمسك بهذا المسار، وإثبات أن هذا الشعب من حقه أن يقول كلمته ويقرر مصيره من خلال دستور ينظم كيان دولته ويفتح آفاقاً جديدة للمستقبل".
وإذ عزا عضو مجلس إدارة مفوضية الانتخابات عبد الحكيم شعاب ضعف إقبال الناخبين على التسجيل في بداية المرحلة الأولى إلى "الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، وحالة الصراع السياسي المحتدم والتي انعكست على تراجع ثقة المواطن واتساع الفجوة بينه وبين السلطة"، أشار إلى أنه مع تمديد فترة التسجيل لمرتين "لاحظنا تزايد الاهتمام بالتسجيل"، لافتاً إلى أن غالبية البلديات التي ستُجرى فيها المرحلة الأولى "صغيرة وأعداد سكانها محدود، وبالتالي عدد المسجلين في النهاية جيد لإنجاز الاستحقاق".
وتطرق شعاب إلى تحدي ضعف إمكانات مفوضية الانتخابات لإنجاز الاستحقاق البلدي، مؤكداً لـ"النهار العربي" أن "شُح الموازنة أثر على عمل المفوضية في تنظيم الانتخابات، واضطرها إلى تقسيم العملية كما حد من الحملات التوعوية والدعائية للانتخابات"، مشيراً إلى أنها تطالب بالموازنة منذ تشرين الأول (أكتوبر) الماضي لكنها تأخرت حتى الآن. وكل ما تلقته المفوضية حتى الآن هو عشرة ملايين دينار من الحكومة المكلفة من مجلس النواب (الموازية)، ولم تتسلم أي مبالغ من حكومة الوحدة الوطنية (المسيطرة على العاصمة). وأضاف: "مفوضية الانتخابات تحتاج إلى ما لا يقل عن 40 مليون دينار لإنجاز الاستحقاق البلدي".
وتكرار الشكوى استدعى تدخلاً من بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، التي حضت السلطات على توفير الموارد اللازمة لتسهيل الخطوات التالية للانتخابات البلدية ومواصلة دعم مفوضية الانتخابات، معلنة ترحيبها باستكمال تسجيل الناخبين في المرحلة الأولى. كما حضت المؤسسات الليبية على مواصلة جهودها لتشجيع مشاركة المرأة والتي تبلغ حالياً 29 في المئة من إجمالي عدد الناخبين المسجلين لضمان عملية ديموقراطية أكثر شمولاً.
المحلل السياسي عبد الجواد بدين اعتبر أن تجاهل الحكومة المركزية في العاصمة طرابلس تخصيص موارد لمفوضية الانتخابات "يعكس عدم الترحيب بوجود سلطة منتخبة ومحاولة لعرقلة الاستحقاق"، موضحاً لـ"النهار العربي" أن "البلديات يُفترض أن تمثل المواطن في مطالبه المعيشية والخدمية، كما أن لها دوراً رقابياً على الأداء الحكومي في المناطق وإنفاق الموازنات، وفي الشق السياسي ستكون لهذه المجالس قوة مستندة إلى انتخابها مباشرةً من الشعب، فيما لا يحظى المتحكمون في السلطة بهذه الشرعية".
واستنكر الباحث السياسي رمضان معيتيق محاولات الحكومة عرقلة إنجاز الاستحقاق البلدي، لافتاً لـ"النهار العربي" إلى "عدم تعاون وزارة الحكم المحلي في العاصمة مع مفوضية الانتخابات، وحجب الأولى سجلات الناخبين، ما اضطر الأخيرة إلى فتح تسجيل الناخبين من الصفر، وهذا أهدر وقتاً وأثر في أعداد الراغبين في الذهاب إلى الاقتراع، حتى أن هناك بلديات سجلت أعداداً محدودة من الناخبين لم يتعد بضع مئات، وهو ما يهدد شرعية الانتخابات".
ورأى معيتيق أنه "لو قدمت وزارة الحكم المحلي تعاونها لكان يمكن تنقيح السجلات القديمة بحذف الوفيات وإضافة من بلغ سن الانتخاب من دون الحاجة إلى فتح باب التسجيل"، مضيفاً: "مفوضية الانتخابات لم تتوافر لديها أرقام من يحق لهم الانتخاب في ليبيا... لو كانت هناك إرادة حقيقية لإنجاز هذا الاستحقاق لكان سيتم اللجوء إلى منظومات إلكترونية محكمة مرتبطة بالهوية الوطنية، لأنه يُفترض أن من بلغ السن القانونية للانتخاب يسجل مباشرةً".
أما المحلل السياسي راقي المسماري فأظهر تشاؤماً حيال إمكان إنجاز الاستحقاق البلدي. وقال: "رغم أن الانتخابات البلدية مهمتها تسهيل تقديم الخدمات وتحسين مستواها، لكنها سترسم ملامح المرحلة المقبلة وستمثل تعبيراً عن المجال السياسي في ليبيا التي تشهد انسداداً سياسياً منذ سنوات وتآكل شرعية السلطة".
وأوضح المسماري أنه "من الصعب في ظل الظروف التي تمر بها ليبيا إبعاد الاستحقاق البلدي عن المناكفات السياسية، فالأطراف الحاكمة لديها علاقات متشابكة مع المسيطرين على البلديات، وهم لا يضمنون الحفاظ على تماسك هذه الكوتا في حال إجراء الانتخابات البلدية، وبالتالي خسارة ورقة تفاوضية عند الجلوس إلى طاولة مفاوضات الحل السياسي الشامل... يجب البدء بهرم السلطة وتجديد الشرعية السياسية للسلطة التشريعية والتنفيذية حتى تنتقل ليبيا إلى مرحلة الاستقرار السياسي".