يتأهب المجلس الأعلى للدولة، الغرفة التشريعية الثانية المفترضة في ليبيا، لإجراء اقتراع داخلي لاختيار مكتب رئاسة جديد مؤلف من رئيس ونائبين ومقرر. ولا يترقب الليبيون هذا الأمر بسبب دور المجلس في صوغ التشريعات أو تسيير شؤونهم الحياتية فحسب، بل لأنّ الاستحقاق يحمل مؤشرات على تماسك نفوذ رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، وسط تنامي القطاعات المعارضة لاستمراره في الغرب الليبي. كما سيكون لهذا الاقتراع تداعيات على المستقبل القريب للصراع السياسي المحتدم، وإمكانية التوافق على القوانين المنظمة للانتخابات المعطلة، وتشكيل حكومة موحدة.
ومن المتوقع أن يتصدر شخصان قائمة المتنافسين على رئاسة المجلس: الرئيس الحالي محمد تكالة المقرب من الدبيبة، وسلفه خالد المشري، صاحب الخبرة في رئاسة المجلس خمس دورات. وما يزيد من سخونة المنافسة اعتزام الكتلة المناوئة لرئيس حكومة الوحدة الوطنية، والمنخرطة مع أعضاء في مجلس النواب في ما يُعرف بـ"كتلة التوافق"، الدفع بأحد أبرز قادتها، وهو عادل كرموس، لخوض المنافسة، ومن شأن فوزه بالمقعد تخفيف حدة الصراع مع معسكر الشرق الليبي، وحلّ عقدة صراع الحكومتين.
حسابات دقيقة
ويمثّل إبعاد تكالة عن رئاسة المجلس الأعلى للدولة، سواء لمصلحة المشري أو كرموس، خسارة الدبيبة أحد أبرز رجاله في سلطة الغرب الليبي، بعد انهيار تحالفه مع محافظ المصرف المركزي الصديق الكبير قبل شهور. لكن هذا لا يعني انفراط عقد هذا المعسكر الذي يرتبط بعلاقة معقدة بين السلطة ممثلة في الدبيبة، والذي يمتلك مفاتيح وزارة النفط والغاز والمؤسسة الوطنية للنفط، المصدر الرئيسي للثروة من ناحية، ويدير ميليشيات ضاربة تُسيطر على مفاصل العاصمة، وتحالف مع الجماعات الدينية الأيديولوجية من ناحية أخرى.
ووفقاً للائحة الداخلية للمجلس الأعلى للدولة الذي تأسس في نهاية العام 2015، بمقتضى الاتفاق السياسي المعروف بـ"الصخيرات"، تُنظم انتخابات مطلع آب (أغسطس) من كل عام، يختار فيها أعضاؤه، البالغ عددهم 140، رئيساً ونائبين ومقرراً بالتصويت المباشر.
وكان رئيس مجلس النواب عقيلة صالح استبق اختيار الأعلى للدولة رئيسه الجديد، وأعلن منذ أكثر من أسبوع فتح باب الترشح لشغل منصب رئيس حكومة جديدة، في خطوة يُتوقع أن يكون لها تداعيات على انتخابات الغرفة التشريعية الثانية المفترضة، واصطفاف أعضائها.
ودعا بيان، حمل توقيع الناطق باسم مجلس النواب عبد الله بليحق، من يرغب في الترشح ويأنس في نفسه الكفاءة لهذا المنصب "تقديم مستندات ترشحه إلى مكتب مقرر المجلس في مقر الديوان ببنغازي"، اعتباراً من 28 تموز (يوليو) وحتى 11 آب (أغسطس) المقبل. وأضاف: "دعا رئيس مجلس النواب رئاسة وأعضاء مجلس الدولة تزكية من يرون فيه الكفاءة لشغل رئاسة الحكومة".
تنافس مفتِّت
وخلال الشهور الأخيرة، نشطت "كتلة التوافق" بين مجلسي النواب والأعلى للدولة، لمحاولة حلحلة الانسداد السياسي. وعقدت سلسلة اجتماعات كان آخرها في العاصمة المصرية مطلع الشهر، اتفقت خلالها على تمرير قوانين الانتخابات التشريعية والرئاسية، وتشكيل حكومة موحدة تدير العملية الانتخابية، لكن هذه التوافقات لم تحظَ بالرعاية الدولية في ظل تفاقم الخلافات بين أطراف الصراع، وبينهم رئيسا مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة. وفيما يسعى الأخير للحفاظ على مقعده في الانتخابات التي ستجري غداً، مستنداً إلى دعم الكتلة الموالية للدبيبة داخل مجلسه، يهدف منافسه المشري إلى اختراقها وتفتيت أصواتها، وفق مصدر مطلع داخل الأعلى للدولة تحدث لـ"النهار العربي".
وأشار المصدر إلى اجتماعات مكثفة عقدها المشري، لمحاولة استعادة المقعد الذي خسره لمصلحة تكالة في انتخابات العام الماضي.
وإذ رأى المصدر أنّ تنافس تكالة والمشري قد يفتت الكتلة المحسوبة على "إخوان" ليبيا داخل المجلس الأعلى للدولة، والتي تمثّل أغلبية الأعضاء، الأمر الذي قد يصب في مصلحة كرموس، مرشح "كتلة التوافق"، الذي يضمن تماسك كتلته وتقدر بما يزيد على 50 عضواً (أكثر من ثلث أعضاء المجلس)، لفت إلى احتمال تنازل كرموس، القيادي السابق في "إخوان" ليبيا، عن الترشح لمصلحة المشري، الأمر الذي يعزز أسهمه للفوز بالمقعد. وأضاف المصدر أنّ لائحة المتنافسين على الرئاسة قد تضم أيضاً عضوَي المجلس بلقاسم اقزيط وناجي مختار، وإن كانت فرصهما محدودة.
ووفقاً لنظام الاقتراع، يستدعي الفوز بالمقعد حصول المرشح في الجولة على ثقة أكثر من 50 في المئة من الحضور. وإن لم يتمكن أحد المتنافسين من الحصول على هذه النسبة، يذهب أعلى مرشحين حصداً للأصوات إلى جولة إعادة.
"غير كاف"
يؤكّد سعد بن شرادة، عضو المجلس الأعلى للدولة، أنّ مجلسه منقسم داخلياً، فهناك من يؤيد التوافق مع مجلس النواب والمضي قدماً نحو إنجاز الملفات العالقة وتشكيل حكومة موحدة، وسيفقد تكالة تصويت هذه الكتلة لأنه يستند إلى دعم الكتلة الثانية التي تتحفظ على هذا التوافق".
كذلك، يؤكد بن شرادة تأثير نتائج الانتخابات الداخلية في المجلس الأعلى للدولة على التوافق مع مجلس النواب، مشيراً إلى تجميد الترتيبات التي كانت تجري لعقد اجتماع يجمع الرئاسيات الثلاث: النواب والأعلى للدولة والمجلس الرئاسي، لحين انتهاء الانتخابات على رئاسة الأعلى للدولة.
لكنه يلفت لـ"النهار العربي" إلى أنّ هذا التوافق إن حدث فهو غير كاف لحلحلة العملية السياسية المعقدة في ليبيا، والتي تتداخل فيها أطراف محلية ودولية. ويوضح أنّ مجلسي النواب والدولة اتفقا في محطات عدة، بداية بإجراء انتخابات العام 2021 قبل أن تُعطل لظروف خارجة عن المجلسين، وانتهاءً بتشكيل لجنة قانونية مشتركة عُرفت باسم لجنة "6+6" والتي أنجزت بالفعل قوانين الانتخابات الرئاسية والتشريعية لكنها لم تحظَ بقبول دولي وأطراف محلية.
نفق مظلم
ويتفق المحلل السياسي الليبي أشرف البلهي مع ما طرحه بن شرادة في كون اتفاق المجلسين لا يعني الخروج من النفق المظلم، ويؤكّد أنّ "الأهم من هذا الاتفاق الذي نتمنى الوصول إليه هو تنفيذه على الأرض بمباركة دولية وإقليمية، وهذا لن يحدث من دون توافق محلي أوسع".
ويقف البلهي مع المعسكر الداعي إلى العمل على استصدار دستور جديد لليبيا كأولوية ملحة، فمن دون دستور ينظم عمل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويعالج القضايا الإشكالية، ويقول: "يظل البلد على حاله، منقسماً يُسيطر كل طرف على منطقة وفق نفوذه وتكتلاته، وكل ما يُتداول في المشهد هو قفزٌ في الهواء ومراوحة في المكان يتحمل تبعاتهما المواطن".
ويتابع: "حتى الحديث عن تحقيق توافق لتوحيد الحكومة ومؤسساتها من دون دستور منظم يبقى في إطار الصراع على المناصب وتقاسمها"، مشدداً على ضرورة التعامل بصراحة ومكاشفة مع الواقع الذي تعانيه ليبيا، حتى يمكن بناء الثقة بين كل الأطراف السياسية والعسكرية، وإن على مراحل.