يتصاعد الحديث في تونس في السنوات الأخيرة عن أزمة الهجرة غير النظامية وما يسببه المهاجرون القادمون من دول أفريقيا جنوب الصحراء من مشكلات اجتماعية واقتصادية، وحتى أمنية وسياسية للبلد.
وفي وقت صارت دول أفريقيا جنوب الصحراء وغربها تمثل مصدراً لقلق البلد الواقع على ضفة المتوسط، باعتباره نقطة انطلاق آلاف المهاجرين غير النظاميين الوافدين عليه ممن يتوقون للمشاركة في رحلة سرية تقودهم نحو الضفة الأخرى من المتوسط، ينظر عدد مهم من التونسيين، خصوصاً من الشباب إلى تلك الدول بعيون مختلفة ترى الجانب المشرق فيها.
آفاق أرحب
عبد الله الطبلبي واحد من هؤلاء الشباب الذين شدوا الرحال نحو أفريقيا الأخرى في رحلة اختارها أن تكون عكس التيار كما يقول لـ"النهار العربي".
هو مهندس معماري تونسي حزم حقائبه قبل نحو 7 سنوات نحو العاصمة السنغالية دكار بحثاً عن آفاق أرحب، ورغم أنه لم يكن يعلم الكثير عن هذا البلد وسوق الشغل هناك فقد فضل العرض الذي قدمته له شركة أفريقية تعمل في مجال الإنشاءات على عرض عمل في كندا.
يقول الطبلبي: "فكرت كثيراً واقتنعت بعد نقاش مع زوجتي بالمغامرة الأفريقية، كانت لدي فكرة عن الحياة في كندا حيث سأدفع جزءاً كبيراً من راتبي ضرائب وسأعيش في بلد بارد وبعيد".
استقر المهندس في السنغال وهناك اكتشف أن الفكرة التي كان يحملها عن البلد وعن أفريقيا السمراء "كانت مغلوطة تماماً".
تعرف المهاجر التونسي إلى بلد جديد يعرض فرصاً واعدةً أمام الكفاءات الباحثة عن إثبات ذاتها والنجاح في مسيرتها المهنية.
يقول: "هناك التقيت عدداً من المهاجرين من جميع أنحاء العالم ممن اختاروا هذا البلد للعمل والاستثمار".
حركة في تنامٍ مطرد
المهندس المعماري التونسي هو واحد من آلاف التونسيين الذين اختاروا السير على درب حلم يقطع مع الحلم النمطي المهووس بفكرة الرحيل نحو أوروبا بدرجة أولى والخليج العربي بدرجة ثانية.
وفي السنوات الأخيرة تنامت ظاهرة هجرة التونسيين نحو دول أفريقيا جنوباً حيث توفر سوق العمل آفاقاً واسعة يمكن الاستفادة منها، في وقت تفيد دراسات كثيرة بأن أفريقيا تعرض فرصاً مهمة للاستثمار تدفع حتى الدول العظمى إلى التنافس على التموقع في أسواقها بسبب ما تقدمه من فرص واعدة في مختلف المجالات.
وبحسب مجلس الأعمال التونسي الأفريقي، أقامت 160 شركة تونسية أعمالاً لها في ساحل العاج بعدما كانت في حدود 20 قبل ثماني سنوات، مؤكداً وجود أرقام لافتة تتعلق بالاستثمارات التونسية في كل من السنغال والكاميرون.
اكتشاف مثير
في الكاميرون أسس عبد الخالق الغربي شركة للكهرباء والصيانة، يقول إنه اكتشف حين استقر في هذا البلد أن النجاح هناك أسهل بكثير من النجاح في أوروبا: "هنا أصبحت صاحب شركة تشغل العشرات من الموظفين، ولم أكن لأحقق ذلك لو هاجرت نحو فرنسا كما يفعل أغلب التونسيين، وربما كان مصيري العمل في ورش البناء كأغلب رفاقي ممن استقروا هناك".
عن الأسباب التي جعلته يختار الكاميرون، يقول إنه زار البلد قبل نحو سبع سنوات من أجل السياحة، وهناك التقى صديقاً تونسياً شجعه على البقاء والبحث عن بداية جديدة. ويضيف: "لا قيود هنا على المهاجر كما يفعل الغرب، الإجراءات بسيطة والحياة أسهل".
بعد كل هذه السنوات لم يعد عبد الخالق يفكر في العودة الى تونس، يقول إنه تعوّد على الحياة هناك، فرغم اختلاف اللغة والعادات والتقاليد وحتى الطقس والأكل، وجد المهندس التونسي الكثير من الاحترام من أهل البلد واستطاع أن يدشن مرحلة جديدة من حياته المهنية يأمل أن يتبعها المزيد من النجاحات. ويقول: "كمهندس شاب في اختصاص الكهرباء أنصح كل من له رغبة في الهجرة بأن يفكر خارج الصندوق، هنا يمكنه النجاح والاستمتاع بحياة بسيطة من دون التعرض للاستغلال أو العنصرية".
ويلفت إلى أن التونسيين تأخروا في اكتشاف ما تقدمه لهم هذه الدول على عكس دول عربية أخرى انتبهت لذلك منذ سنوات، لكنه يؤكد أنه يتلقى العديد من الاتصالات من شباب في تونس يرغبون في معرفة المزيد عن هذه المنطقة التي وصفها بـ"الاكتشاف المثير".
نزيف هجرة الكفاءات التونسية
ويهاجر من تونس سنوياً آلاف أصحاب الكفاءات في مختلف الاختصاصات ويقدر عددهم بنحو 90 ألفاً في أوروبا وحدها، ما يجعل البلد مهدداً مستقبلاً بنقص اليد العاملة المؤهلة، فيما اختار آلاف الشبان الهجرة غير النظامية، ما أفقد سوق الشغل جزءاً كبيراً من يدها العاملة.
ويقول الناطق باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر لـ"النهار العربي" إن "الهجرة جنوباً فكرة بدأت تراود الكثير من شباب تونس وحتى كهولها ممن فهموا أن أفريقيا ليست عنواناً فقط للفقر والبؤس وأن هناك تصنع النجاحات أيضاً".
ويضيف أن أفريقيا باتت وجهة جاذبة لكل من يرغب في الاستثمار مستقبلاً وهو ما انتبه له عدد لا بأس به من التونسيين ممن اختاروا الاستقرار والعمل هناك.
زيادة في نسبة التحويلات
وتشير بيانات رسمية لوزارة الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين في الخارج إلى وجود أكثر من 1.7 تونسيّ في الخارج سنة 2021 مقابل 1.2 مليون مهاجر سنة 2011 أي بتطور يقدر بـ3.7 % سنوياً.
وتستقطب أوروبا 85.7% من مجموع المهاجرين 55.8% منهم في فرنسا و15.1% في إيطاليا و6.6% في ألمانيا.
وتعتبر بلدان أميركا الشمالية (كندا والولايات المتحدة) من بين الوجهات الجديدة للجالية التونسية، إذ تستقطب شريحة مهمة من الكفاءات، وتقدر نسبة التونسيين في هذين البلدين بـ2.1% و1.5% على التوالي.
في المقابل، لا تذكر البيانات الرسمية الحديثة عدد الجالية التونسية في دول أفريقيا جنوب الصحراء، ويعود آخر رقم رسمي إلى عام 2012 ويقدر وجودهم في هذه الدول بـ0.2% من مجموع المهاجرين ويستقر أكبر عدد في منهم في ساحل العاج والسنغال والكاميرون، لكن ديوان التونسيين في الخارج، كشف العام الحالي عن أن تحويلات هذه الجالية التونسية في دول جنوب تمثل 3.8% من تحويلات المغتربين.