توّجت تركيا انفتاحها على سلطة الشرق الليبي بعد عداء دام سنوات، باستقبال بلقاسم حفتر، مدير عام صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا، الذراع الإنشائي لـ"الجيش الوطني" الليبي الذي يتزعمه والده خليفة حفتر، في زيارة طرحت الكثير من التساؤلات عن الدور الذي تؤديه تركيا في ليبيا، وقدرتها على رسم علاقات تتسم بالبراغماتية والإمساك بالعصا من المنتصف مع السلطة المنقسمة في البلاد.
العصا من الوسط
وكان رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح، قد زار العاصمة التركية في نهاية العام الماضي، وعقد لقاءات ركّزت على الملف السياسي. لكن زيارة نجل بلقاسم حفتر في أواخر تموز (يوليو) الماضي تمثل نقله نوعية في علاقات أنقرة بأطراف الصراع في ليبيا، وتعكس اهتمام أنقرة بالحصول على حصة وازنة من عقود الإعمار في ليبيا، مع تمسّكها بالاعتراف حصراً بحكومة الوحدة الوطنية المسيطرة على العاصمة، برئاسة عبد الحميد الدبيبة.
وكان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قد أكّد في وقت سابق أن علاقات أنقرة بشرق ليبيا "تتقدّم بشكل جيد جداً"، كاشفاً عن تواصل مع قائد "الجيش الوطني"، وعن محادثات مع أبنائه.
لم يكشف الجانبان التركي والليبي عن تفاصيل زيارة حفتر الإبن، واكتفيا بالإعلان عن لقائه فيدان في مقر وزارة الخارجية التركية في أنقرة، حيث ناقشا سبل تطوير التعاون الثنائي بين البلدين.
مشاريع ضخمة
المهمّ في هذه الزيارة أنها تمّت بعد أيام قليلة من توقيع صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا عقوداً عدة مع شركات تركية لتنفيذ مشاريع ضخمة، من أبرزها عقد مع شركة "تي جي جي" التركية للمقاولات، لإنشاء ثلاثة أبراج في مدينة بنغازي، يرتفع أطولها 124 متراً، فيما يرتفع الثاني 84 متراً، والثالث 68 متراً. أحد هذه الأبراج الثلاثة سكني، والآخر فندقي، والثالث مكتبي، وتطل كلها على بحيرة وملعب للغولف قرب المدينة الرياضية. ووفقاً للعقد، ينتهي العمل في المشروع خلال عام ونصف، وتشغّله الشركة التركية وتدير أبراجه عامين.
كذلك، أعلنت شركة "توسيالي" التركية لإنتاج الصلب الأخضر في تموز (يوليو) الماضي عن توقيعها اتفاقاً مع شركة ليبيا المتحدة لصناعة الحديد والصلب، لبناء ما وصفته بـ"أكبر مجمّع في العالم للحديد المختزل المباشر" في مدينة بنغازي، بسعة إجمالية تبلغ 8,1 ملايين طن.
بموجب هذا الاتفاق، أسست الشركتان شركة جديدة باسم "توسيالي – صلب" مقرّها في بنغازي، تتولّى تأسيس المشروع الذي يتضمن سلسلة من الاستثمارات المهمّة التي تسهم بشكل كبير في تطوير الصناعة في ليبيا، خصوصاً تطوير قطاع الحديد والصلب وتوفير فرص العمل، وفقاً لبيان أصدرته الشركة التركية، مشيراً إلى البدء في الاستثمارات على الفور في المرحلة الأولى والتي تبلغ طاقتها 2.7 مليون طن.
وقال فؤاد توسيالي، رئيس الشركة التركية: "أعتقد أننا سنكون رواداً في تحويل صناعة الصلب الليبية إلى نظام بيئي يلبّي احتياجات صناعة الصلب العالمية من خلال إنتاج منتجات فولاذية خضراء عالية الجودة مع انبعاثات كربونية منخفضة، والاستفادة من التكنولوجيا المتقدّمة والابتكار والبحث والتطوير في المنشأة المتكاملة التي سوف ننشئها"، فيما توقع رئيس شركة ليبيا أحمد جاد الله، أن يُسهم هذا الاستثمار في تعزيز العلاقات الاقتصادية بين ليبيا وتركيا، "وأن يحوّل بنغازي إلى لاعب رئيسي في إنتاج الصلب العالمي".
استدارة تركية
يرى المحلل السياسي أحمد التهامي، أن تغيير تركيا سياستها تجاة شرق ليبيا لا يلبّي الطموحات، لكنه مفيد جزئياً. ويوضح لـ"النهار العربي" أن الدول تغيّر سياساتها وفقاً لمصالحها، "وأنقرة انفتحت على سلطة شرق ليبيا بعدما حصلت شركاتها على حصة من مشاريع الإعمار، ستعود عليها بالربح وتفيد الاقتصاد التركي، بعدما كانت أرباحها تقتصر على سلطة الغرب الليبي نظير الحماية التي تقدّمها".
ويضيف التهامي: "المشاريع الجديدة مفيدة لأنها تعمل على تحسين الحياة في بنغازي وتقديم الخدمات، وتستوعب أعداداً كبيرة من العمالة. إضافة إلى ذلك، إنتاج مصنع الحديد بعد إنشائه يستهدف أسواقاً خارجية، وبالتالي هذا يعزز تدفق العملة الصعبة إلى البلاد".
وعلى رغم الانسداد السياسي ومن احتدام الصراع بين الفرقاء، "يجب المضي قدماً في طريق إقامة المشروعات وإعمار المدن التي عانت سنوات من الإهمال، بهدف استعادة ثقة المواطن واعطائه الأمل في غد أفضل"، كما يقول التهامي.
ويربط الباحث في العلاقات الدولية أحمد مهدوي بين تغيُّر الموقف التركي تجاة شرق ليبيا بعد سنوات من العداء، ودعم الجماعات المسلحة في مواجهة "الجيش الوطني" الليبي، وبين مرونة أنقرة في التعامل مع المتغيّرات الإقليمية، خصوصاً بعد الانتخابات الرئاسية التركية الأخيرة. يقول لـ"النهار العربي": "هذا التغيُّر مرتبط أيضاً بالمصلحة، وتركيا تعتمد منهج المصلحة أينما وجدت"، متوقعاً أن يتراجع دعم أنقرة لرئيس حكومة الوحدة الوطنية، "فالمشاريع التي وقّعت عقودها مع شركات تركية تمثل مكسباً سياسياً لمعسكر شرق ليبيا، في وقت يعاني الاقتصاد التركي من أزمات عدة".
توازن سياسي محفوظ
يخالف المحلل السياسي صلاح البكوش رأي المهدوي، حتى أنه يحذّر في حديث لـ"النهار العربي" أن أي تغيّر في قواعد التحالفات الإقليمية مع الأطراف الليبية "من شأنه تجميد الأزمة السياسية خلال المرحلة المقبلة".
ويؤكّد البكوش أن تركيا لن تغيّر استراتيجية علاقتها تجاه غرب ليبيا، "والدليل أن البرلمان التركي مدّد في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي للقوات التركية في ليبيا. فالدول تسعى إلى تحقيق مصالحها وحماية هذه المصالح"، لافتاً إلى أن تراجع الاقتصاد في تركيا دفع أنقرة إلى تغيير سياستها خلال العامين الأخيرين تجاه دول المنطقة، "واليوم، تربطها علاقات بقادة شرق ليبيا، إضافة إلى بسطها نفوذها على الحكومة المسيطرة على العاصمة طرابلس".
ويضيف البكوش: "الأمر نفسه يحدث مع دول إقليمية أخرى. بالتالي، الجميع يسعى إلى حفظ التوازن في علاقاته مع المعسكرين في ليبيا. وهذا لن ينعكس حلاً للأزمة الليبية، ولن يفرض مصالحة بين أطرافها، إنما يُبقي الوضع في حال من اللاحرب واللاسلم".
ويتفق المهدوي مع البكوش في استبعاد انعكاس التغيّر السياسي التركي على الاستجابة للمطالبات بإخراج القوات التركية التي تتمركز في غرب ليبيا، "فلهذا الملف تشابكات وأبعاد دولية، وهو ليس في يد ليبيا وحدها".