بدت الانتخابات الداخلية التي أجراها المجلس الأعلى للدولة في ليبيا (الغرفة التشريعية الثانية المفترضة) لرئاسته، صورة مصغرة عن مستقبل هذا البلد، إذا أجريت انتخابات تشريعية ورئاسية، في ظل استقطاب حاد بين أطرافه.
فالاقتراع الذي جرت وقائعه الثلاثاء الماضي، في أحد الفنادق الشهيرة في العاصمة طرابلس، شهد منافسة محمومة بين رئيس حالي ورئيس سابق تخللتها اتهامات بتدخل المال السياسي والرشى الانتخابية، وانتهى بمنافس يؤكد فوزه بالمقعد والآخر يرفض مغادرته.
فارق صوت... ولكن!
وفي أجواء الاستقطاب الحاد بين أطراف المشهد الليبي وتداخل الصراع بين الفرقاء، ترشح لمقعد الرئيس محمد تكالة المقرب من رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، في مواجهة خصمي الأخير، الرئيس السابق خالد المشري، والقيادي في "كتلة التوافق" في مجلس النواب عادل كرموس. ولم يتمكن أحد من إنهاء المنافسة من الجولة الأولى، إذ حصل تكالة على 67 صوتاً، مقابل 54 للمشري، و17 صوتاً لكرموس. ليذهب الأول والثاني إلى جولة إعادة حسمها المشري بفارق صوت واحد، إذ حقق 69 صوتاً في مقابل 68 صوتاً لمنافسه تكالة، لكن الجدل اشتعل بشأن ورقة تصويت اعتُبرت باطلة لاحتوائها على كتابات على ظهرها، لكن تكالة رفض ذلك وأكد صحتها، مطالباً بالذهاب إلى جولة ثالثة لحسم المنافسة، قبل أن يُقرر قطع البث المباشر وسط مشاحنات بين الأعضاء، ليخرج بعدها بنحو ساعة في مؤتمر صحافي، أعلن فيه اللجوء إلى القضاء للفصل في الأمر قبل 20 الشهر الجاري وإلا تُعقد جلسة لإعادة الانتخابات، معتبراً أن "إعادة عملية الاقتراع فرصة حقيقية للجميع لإثبات جدارتهم بثقة أعضاء المجلس، من يعتقد في نفسه أنه الأجدر عليه ألا يخشى من جولة إعادة أخرى". وهو القرار الذي رفضه المشري، معتبراً أن إجراء جولة اقتراع ثالثة "إعلان باطل صدر عن غير ذي صفة"، مشدداً على أنه "الرئيس الشرعي" ولن يتنازل عن رئاسة المجلس أبداً حتى انتخابات المجلس العام المقبل. ووجه اتهامات مبطنة إلى الدبيبة من دون أن يسميه بـ"التآمر على المجلس، نعرف من يحاول إنهاء دوره". كما أكد أن اللائحة الداخلية للمجلس "لا تسمح باللجوء إلى القضاء لفض المنازعات، وحتى إذا تم احتساب الورقة المثيرة للجدل فإن نتيجة التعادل تُعطي رئاسة المجلس إلى أكبر المتنافسين سناً ولا يتم الاحتكام إلى جولة اقتراع ثالثة".
وحذر المشري من أن "العملية الديموقراطية مهددة في ليبيا بالكامل، فإذا على هذا المستوى والوضوح بدأنا رفض نتائج الانتخاب فماذا سيحدث في الانتخابات المقبلة؟"، مضيفاً: "شاهدنا بثاً مباشراً لعملية التصويت، وبحضور مراقبين ممثلين عن المرشحين أمام صناديق الاقتراع". ليعود بعدها تكالة مدافعاً عن إجراءاته في بيان أصدره الأربعاء، واختتمه بتوقيع رئيس المجلس الأعلى للدولة وختمه، مشدداً على أن "الذهاب إلى جولة ثالثة إجراء صحيح لأن الورقة صحيحة، وليس من حق أحد إبطالها"، معتبراً أن رفض خصمه الاعتداد برأي القضاء، "ينسجم مع موقفه المتطرف، وقراره المسبق في الوصول وبأي ثمن إلى اعتلاء المنصب، حتى وإن كان على حساب صورة المجلس وأعضائه وسمعتهم"، ومؤكداً أن 20 الشهر الجاري "سيكون موعداً لانتخاب مكتب الرئاسة، لأن إعادة التصويت ترفع الجدل، وتحافظ على تماسك المجلس".
صدام مسلّح؟
وبينما تسربت معلومات عن وساطة لحل النزاع، أثار الصراع على رئاسة الأعلى للدولة، مخاوف في الأوساط الليبية من أن ينتقل من مربع الخلاف السياسي والقانوني إلى الصدام المسلح، خصوصاً أن كلاً من المشري وتكالة يرتبطان بعلاقات بميليشيات العاصمة وجماعات أيدولوجية. وسيكون لهذا الصراع تداعيات على العملية السياسية، فمن شأن استمراره خروج المجلس من معادلة مفاوضات التسوية، لينكفئ على حل خلافاته الداخلية، الأمر الذي سيزيد من إرباك المشهد السياسي الليبي.
الباحث السياسي والحقوقي طارق حمودة توقع أن "تشهد الأيام المقبلة صراعاً على أشده على رئاسة الأعلى للدولة"، محذراً من انتقال هذا الصراع إلى الشارع. وأضاف لـ"النهار العربي": "ما شهدته جلسة الاقتراع مؤسف. أن يُنقل على الهواء مباشرة الصراع على رئاسة مجلس منتهي الشرعية أساساً، وأن يتبادل أعضاء المجلس المشاحنات والسباب، رغم بقاء هؤلاء على مقاعدهم لنحو 9 سنوات، كان يُفترض أن يكون لديهم خبرات سياسية للتعاطي مع الأزمات ويحرصون على صورتهم كممثلين مفترضين للشعب لكنهم لا يكترثون بكل ذلك المهم البقاء على المقاعد".
وتساءل حمودة: "أين الديموقراطية؟ في انتخابات داخلية يحيطها اتهامات بالرُشى السياسية، كما أن عدم احتجاج تكالة وأنصاره، مع ظهور ورقة التصويت المثيرة للجدل، وقبل انتهاء الفرز يشي بتدخلات لتوجيه النتيجة باتجاه بعينه". ورأى أن تعطيل انتخابات المجلس الأعلى للدولة وانقسامه "يصبان في مصلحة رئيس حكومة الوحدة الوطنية، لعرقلة أي تحرك يُمكن أن يؤدي إلى اتفاق على تشكيل حكومة موحدة للبلاد، كما أن هذا الشرخ داخل الأعلى للدولة ستكون له انعكاساته على ملف تنفيذ الانتخابات التشريعية والرئاسية".
مجلس برأسين؟
أما المحلل السياسي سنوسي إسماعيل فرأى أنه بعد الأحداث التي يشهدها الأعلى للدولة فإن المجلس "معرض للانقسام إلى معسكرين برئيسين، والخروج من معادلة المشهد السياسي، وهذه معضلة لأنه المؤسسة التي تُعبر ضمنياً عن الغرب الليبي في ظل الانقسام الحاد الذي تعانيه ليبيا".
وشارك إسماعيل حمودة في استغراب تمرير تكالة وأنصاره استبعاد لجنة فرز الأصوات الورقة (إبطال الصوت)، من دون احتجاج، لتظهر الاعتراضات بعد إعلان النتيجة، موضحاً أنه "منذ تأسيس المجلس (في 2015) أجريت انتخابات على رئاسته لثماني مرات من دون مشكلات، ويجب على تكالة والمشري حل هذا الخلاف والاحتكام إلى رأي اللجنة القانونية داخل المجلس والتي تضم خبراء قانون يحظون بثقة كل الأعضاء، من دون صدامات لا تحتملها ليبيا".
وإذ رجح المحلل السياسي محمد محفوظ أن يتمسك "المشري وتكالة بموقفيهما، ما قد يؤدي إلى انهيار الأعلى للدولة، ويغيب دوره في العملية السياسية"، استبعد تدخل ميليشيات طرابلس على الخط لتنصيب أحدهما.
ولكن محفوظ ذهب إلى اتهام الفرقاء في ليبيا بـ"محاولة إلهاء الشعب الليبي، فبدلاً من الاهتمام بمعالجة الانقسام والذهاب نحو إنجاز الانتخابات التشريعية والرئاسية، تنشغل الأوساط الليبية الآن بمن هو رئيس الأعلى للدولة؟ ونجد تبادلاً للملاسنات بين أنصار معسكر المشري وفريق تكالة، رغم أنه بالتجربة فإن الرجلين لم يحققا أي اختراق في العملية السياسية"، مشدداً لـ"النهار العربي" على أن "المصالح الشخصية هي التي تحكم الجميع من دون النظر إلى مصالح ليبيا وشعبها". وقال: "صحيح أن بقاء تكالة في منصبه في مصلحة الدبيبة وحكومته، لكن تسويق أن بإقصاء الأول من رئاسة المجلس وعودة المشري تُحل معضلة الانقسام الحكومي هذا أمر غير واقعي على الأرض، لأن عملية تغيير الحكومة معقدة على الصعيدين المحلي والدولي".