يقول المثل: عندما تتعارك الأفيال يدفع العشب الثمن. هذا ما حدث في قلب العاصمة الليبية، فقد دفع 9 من سكانها المدنيين حياتهم، وجُرح 15 آخرين، إثر صدامات جديدة بين الميليشيات، أعادت دق نواقيس الخطر بشأن فلتان السلاح في هذا البلد، وما يمثله من تحديات أمام مستقبل العملية السياسية.
وعاشت بلدة تاجوراء ومحيطها في شرق طرابلس (غرب ليبيا)، عطلة أسبوعية دامية. بدأت الأحداث التي استمرت حتى قبل ليل السبت، بمحاولة اغتيال فاشلة تعرض لها، ليل الخميس، قائد كتيبة "رحبة الدروع" بشير خلف، المعروف بـ"البقرة"، شنت بعدها قواته هجوماً، صباح الجمعة، على مناطق تمركزات ما تُعرف بكتيبة "الشهيدة صبرية"، والتي يقودها عبد المعطي بن رمضان وتوالي المفتي المثير للجدل الصادق الغرياني، لتشهد أحياء البلدة وشوارعها حرباً طاحنة استُخدمت فيها الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، وانتهت لمصلحة ميليشيات "البقرة" وانسحاب "الشهيدة صبرية". وفي خلفية الأحداث اتهامات للأخيرة بتنفيذ محاولة اغتيال "البقرة"، الداعم الرئيسي لخالد المشري الذي يتمسك بفوزه برئاسة المجلس الأعلى للرئاسة، بعد انتخابات أجريت الثلثاء الماضي، وأثارت نتائجها جدلاً.
لكن الأحداث لم تتوقف عن هذا الحد، فمع سيطرة ميليشيات "البقرة" على المنطقة، ترددت أنباء عن احتشاد مجموعات مسلحة مناوئة لرئيس حكومة "الوحدة الوطنية" عبد الحميد الدبيبة، تتمركز خارج العاصمة، واعتزامها الدخول إليها لدعم ميليشيات "البقرة"، الأمر الذي قابله استنفار في صفوف المجموعات المسلحة التابعة للمجلس الرئاسي: كتيبة "اللواء 111" و"كتيبة 444"، وكذلك استدعاء ما تُعرف بـ"القوة المشتركة" الموالية للدبيبة، من مناطق تمركزها في مدينة مصراتة، لتدور جولة جديدة من المواجهات بين الأخيرة وميليشيات "البقرة"، تمكنت خلالها "القوة المشتركة" من إبعاد "البقرة" من المناطق التي سيطرت عليها، بالتزامن مع تدخل شيوخ عدد من مدن الغرب الليبي وحكمائها لوضع حد لهذا التوتر وإعادة الاستقرار إلى البلدة.
ووفقاً لمصادر مطلعة وسكان محليين تحدث إليهم "النهار العربي"، فإن اتفاقاً أُبرم لوقف إطلاق النار، برعاية الشيوخ والحكماء ينص على انسحاب "القوة المشتركة" وميليشيات "البقرة" إلى معسكراتهما، مع دخول قوات تضم "اللواء 111" و"اللواء 55 مجحفل" إلى مناطق النزاع لفضه وتثبيت وقف النار، مع فتح الطرق التي عُطلت إثر الصدامات وتأمينها. لكنّ مصدراً طبياً أكد لـ"النهار العربي" أن الوضع "لا يزال هشاً، رغم توقف الاشتباكات"، مشيراً إلى أن أجهزة الطوارئ الطبية "لا تزال تنشر سيارات الإسعاف في محيط المنطقة، تجنباً لتدهور الوضع مجدداً". كما لفت إلى "إجلاء أكثر من 72 عائلة من منطقة الاشتباكات، وننتظر تثبيت وقف إطلاق النار لإعادتهم إلى منازلهم".
الباحث في الدراسات السياسية والاستراتيجية محمد امطيريد ربط بين صدامات تاجوراء والانقسامات السياسية والعسكرية التي حدثت خلال الشهور الأخيرة، وأدت إلى حالة من الاستقطاب بين أطراف معسكر الغرب.
وأشار لـ"النهار العربي" إلى أن الخلاف على رئاسة الأعلى للدولة بين محمد تكالة وخالد المشري بعد انتخابات الأسبوع الماضي، ينعكس على الوضع الأمني في ظل تدخل المفتي الصادق الغرياني وأتباعه من الجماعات الراديكالية على خط النزاع، وبالإضافة إلى ذلك هناك خلاف حاد بين ميليشيات "جهاز دعم الاستقرار" بزعامة عبد الغني الككلي الملقب بـ"غنيوة"، و"جهاز الردع" بقيادة عبد الرؤوف كارة. وأضاف: "قائد ميليشيات "الشهيدة صبرية" يدين بالولاء إلى غنيوة وقواته والتي تسعى إلى توسيع نفوذها في تاجوراء، وهؤلاء مرتبطون أيضاً بالغرياني، وبالعكس فإن "ميليشيات البقرة" لديها ارتباطات بجهاز الردع وتوالي جماعات أيديولوجية مناوئة للغرياني ومجموعته".
واستغرب امطيريد عدم تدخل الأجهزة الرسمية كوزارة الداخلية ورئاسة الأركان رغم هذا الاستقطاب الحاد وتداعياته على الأمن والاستقرار، مشدداً على أنه "ما دامت المجموعات المسلحة في الغرب الليبي لا تخضع لسلطة الأجهزة الرسمية، فإن الصدامات ستظل تتكرر ويدفع الثمن دائماً المدنيون".
وأعادت الصدامات إلى الواجهة الحديث عن الحاجة الملحة لتوحيد الأجهزة الأمنية، وشددت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا على الحاجة للتعجيل بإطلاق عملية سياسية شاملة، بعدما دانت "الاشتباكات التي اندلعت في تاجوراء، وما تلاها من تحشيدات عسكرية داخل العاصمة وحولها". وأعربت، في بيان مساء السبت، عن "انزعاجها الشديد"، إزاء التقارير التي تشير إلى وقوع خسائر في الأرواح، وإصابات في صفوف المدنيين، وتشريد العديد من العائلات. كما أعربت عن إدانتها استخدام التشكيلات المتقاتلة الذخائر والأسلحة الثقيلة في المناطق الآهلة بالسكان، مذكرة جميع الأطراف بالتزاماتها بحماية المدنيين في كل الأوقات. ورحبت بجهود خفض التصعيد والاتفاق على وقف الأعمال العدائية، داعية جميع الأطراف إلى الالتزام التام به.
ولفتت البعثة إلى أنها تواصل اتصالاتها مع السلطات الليبية، وتحثها على الاضطلاع بمسؤولياتها من خلال ضمان إنهاء الاشتباكات المسلحة وإعادة الهدوء إلى المناطق المأهولة ومحاسبة المتورطين. واعتبرت أن هذه الاشتباكات تذكّر بالحاجة الملحة إلى توحيد الأجهزة العسكرية والأمنية وإقامة مؤسسات تحظى بالشرعية وتخضع للمساءلة. كما رأت أن تلك الاشتباكات مدعاة للتعجيل بإطلاق عملية سياسية شاملة تفضي إلى انتخابات ذات صدقية، وتمهد الطريق لتحقيق الاستقرار الدائم والازدهار للشعب الليبي.
وبالمثل شددت الولايات المتحدة، في بيان عبر سفارتها، على "الحاجة الملحة لقوات الأمن في كل أنحاء ليبيا لمناقشة كيفية توحيد صفوفها لمصلحة الشعب الليبي وسيادة ليبيا"، بعدما دانت الاشتباكات المسلحة في تاجوراء، ورحبت بالجهود الرامية إلى خفض التصعيد.