استنفرت السلطات الليبية لتطويق تبعات سيول غير مسبوقة ضربت جنوب شرق البلاد، وتسببت في خروج خدمات صحية عن العمل، وأعادت إلى الأذهان فيضان "دانيال" المدمّر الذي شهدته درنة في شمال شرق البلاد، قبل أيام من ذكراها الأولى.
وشهدت مدينة الكُفرة، المتاخمة للمثلث الحدودي مع مصر والسودان، طوال يوم الأحد الماضي هطول أمطار غزيرة لم تسجّلها منذ عام 1952، إذ بلغت كمية المتساقطات نحو 46 مليمتراً، تجمعت في المناطق المرتفعة قبل أن تنزل في المنحدرات فيما يُشبه الفيضان، فغمرت المنازل دافعة بسكانها إلى النزوح، وتدخل المستشفيات فتتسبب في خروجها من الخدمة، وفي اخلائها من المرضى ونقلهم إلى مراكز صحية أصغر.
سودانيون في العراء
كذلك، تسببت كميات الأمطار غير المسبوقة في انهيار شبكة الكهرباء، وأوضحت محطة كهرباء الكُفرة أن موجة الأمطار الغزيرة ألحقت أضراراً بالمحطة الغازية، تسببت في احتراق غرفة المفاتيح الرئيسية.
وكانت للسيول التي صاحبتها قبل ساعات من ليل الأحد عواصف رملية شديدة، تداعيات على المستوى البيئي، إذ انتشرت بعدها العقارب بسبب انتشار برك المياه في شوارع المدينة التي تشتكي تدهوراً في الخدمات، فاقمه تدفق عشرات الآلاف من اللاجئين السودانيين خلال الشهور الأخيرة. ووفقاً لمصادر محلية، بات المئات من هؤلاء السودانيين ليلتهم في العراء. وأكّد جهاز الإسعاف والطوارئ مساء الأحد، إخلاء فرقه 19 سودانياً انهار مسكنهم بسبب الرياح القوية والأمطار، ونُقل من أصيب منهم إلى المستشفى، فيما أعلن فريق الطوارئ تقديم الدعم النفسي لأطفال من الجالية السودانية أبعدتهم الأمطار عن أسرهم.
وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة تُظهر مدنيين محاصرين وسط المياه، ومنازل غمرتها الأمطار فتصدّعت مبانيها، ومستشفيات أتلفت المياه أجهزتها الطبية ومخزونها من الأدوية.
ويوضح حمد الشايب، مدير الهلال الأحمر في الكُفرة، لـ "النهار العربي" أن السيول تسببت في انهيار 32 منزلاً، وانقطاع شبه كامل في الكهرباء، إضافة إلى تضرّر منشآت حكومية غمرتها المياه وأتلفت محتوياتها"، مشيراً إلى أن المدينة تعاني نقصاً حاداً في المستلزمات الطبية، خصوصاً الأمصال، بعد تسجيل إصابات بلدغات العقارب. ولفت إلى أن الهلال الأحمر وزّع مساعدات وأغطية على نحو 200 عائلة متضررة.
جسر جوي
أمام هذا الوضع المأساوي، دخلت القيادة العامة للجيش الوطني الليبي، والحكومة الموازية برئاسة أسامة حماد التي تحكم شرق ليبيا وجنوبها، الاثنين، على الخط، بتسيير قوافل إغاثية وإقامة جسر جوي لنقل المساعدات الإنسانية والطبية.
وأوضح بيان أصدره الجيش الوطني، أن مساعدات الجسر الجوي تشمل إمدادات غذائية وأدوية ومعدات طبية، إضافةً إلى فرق طبية متخصصة لتقديم الرعاية الصحية للمصابين والمتضررين، وتوفير عدد من سيارات الإسعاف لدعم الجهود الإنسانية في الكفرة.
وأعلن إدريس محجوب، مدير غرفة الطوارئ في الكفرة، أن الجيش الوطني بدأ في نقل المصابين بأمراض حرجة، خصوصاً أمراض الكلى، جواً إلى بنغازي. وقال لـ"النهار العربي": "تلقت المدينة شحنات طبية قدّمتها منظمات صحية دولية وقوات الجيش الوطني"، مشيراً إلى خروج مستشفى المدينة الرئيسي من الخدمة بعدما غمرته مياه الأمطار، وإلى تسجيل 80 حالة مصابة بلدغات العقارب التي تساهم التغيّرات المناخية في انتشارها.
يضيف محجوب: "نسعى إلى إعادة الخدمات الصحية التي توقفت بعد إخراج المياه وتجفيف المباني وإصلاح الأجهزة الطبية وإعادة التيار الكهربائي"، مذكّراً بأن المدينة لا تمتلك بنى تحتية تستوعب المتساقطات الغزيرة.
درجة استعداد قصوى
أما بيان حكومة حماد فأوضح أن القافلة الإغاثية التي أرسلتها تضمنت احتياجات أساسية، بما فيها مولدات كهرباء ومضخات مياه، إضافة إلى مواد ضرورية لتخفيف وطأة الأضرار.
وكان عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة الوطنية، قد أعلن عن رفع درجة الاستعداد القصوى في جميع الوزارات والهيئات المختصة، وتسخير الإمكانيات والتجهيزات اللازمة، للانتقال بها إلى بلدية الكفرة. ودعا في منشور له عبر منصة "إكس" جميع الأجهزة إلى تقديم الدعم للمواطنين في الكفرة، جراء الأمطار الغزيرة التي تسببت في السيول وأضرّت بعدد من الممتلكات العامة والخاصة.
من جانبه، يؤكّد عبدالله سليمان حامد، مدير المكتب الإعلامي للمجلس البلدي في الكفرة، أن مجلسه بدأ بتجهيز مساعدات إنسانية تشمل أغطية ومراتب ومعدات طهي لتوزيعها على المتضررين من الأمطار والنازحين من السودان، بالتعاون مع جمعية الهلال الأحمر.
قلق من "دانيال" جديد
جدّدت التقلّبات الجوية غير المسبوقة في ليبيا القلق من تكرار كارثة الإعصار "دانيال" في درنة، في أيلول (سبتمبر) الماضي. يقول الدكتور سامي الأوجلي، الخبير في التغيّرات المناخية: "منذ إعصار "دانيال" الذي ضرب ساحل شرق ليبيا، وهناك مطالبات بضرورة مواكبة ظواهر التغيّرات المناخية التي يعاني منها العالم كله، وضرورة التعامل مع تأثيراتها، لكن لا استجابة، ولا تدابير وقائية، ولا إجراءات واضحة للتعامل مع الكوارث الطبيعية، بل نكتفي بإنشاء مراكز ومؤسسات، لكنها على أرض الواقع لا تعمل"، محذّراً من تكرار كارثة درنة "خصوصاً وأن الخدمات وأجهزة الطوارئ في ليبيا على حافة الإنهيار".
يضيف الأوجلي لـ "النهار العربي": على السلطات في ليبيا إعادة النظر إستراتيجياً في التعامل مع الكوارث الطبيعية، ورسم خطة تناسب طبيعة كل منطقة للتكيّف مع التغيّرات المناخية. فما قد يحدث في المناطق الشمالية الساحلية من أعاصير وزلازل وارتفاع لمنسوب مياه البحر، يختلف عمّا قد تتعرّض له المناطق الجنوبية الصحراوية من تصحر وعواصف رملية". مضيفاً: "لا نملك مراكز علمية لوضع دراسات استشرافية مستقبلية تلائم الواقع الليبي، وتضع توقعات واقعية أقرب إلى التحقق لما قد يحدث، وتضع آليات التعامل معه، فنحن نكتفي بتلقّي التقارير من الخارج".
ويختم قائلاً: "ليبيا لا ينقصها الخبراء والأكاديميين في مجال المناخ، لكن ما ينقصنا هو تعاطي الحكومة الجدّي مع هذا الملف المهمّ".