ارتفع مستوى التوتر الأمني في العاصمة الليبية طرابس، إثر انقسامات حادة ظهرت بين مكونات معسكر السلطة، ما زاد من إرباك المشهد وخلط الأوراق، واستدعى تدخلاً أميركياً لمنع تطور الوضع الى مواجهة مفتوحة على كلّ الاحتمالات.
ومنذ مطلع الأسبوع تعيش طرابلس على صفيح ساخن، وسط تحشيدات عسكرية متبادلة، تواكبت مع تسريب معلومات عن قرار أصدره رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي بإطاحة محافظ المصرف المركزي الصديق الكبير، الذي عُين في منصبه عام 2011، لاتهامه بـ"ارتكاب مخالفات مالية". وشملت التسريبات أيضاً قراراً آخر أصدره رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة بتكليف الاستخبارات العسكرية ملاحقة الكبير وتوقيفه، وإثر ذلك استنفرت ميليشيات "جهاز الردع" التي تؤمن المصرف المركزي ويرتبط قائدها عبد الرؤوف كارة بعلاقات وثيقة بمدير المصرف، بل عمدت إلى تنظيم ما يُشبه الاستعراض العسكري في شوارع العاصمة، الأمر الذي أثار الرعب وسط سكانها.
الصديق الكبير
وأمام هذا المشهد، دخل الموفد الأميركي إلى ليبيا ريتشارد نورلاند على الخط، مؤكداً دعم الكبير وبقائه في منصبه، لتخفف حدة التوتر الأمني وتختفي التسريبات، الأمر الذي عكس قوة النفوذ الأميركي في الغرب الليبي، وأولوية واشنطن في الحفاظ على تحالفاتها مع تركيبة معسكره رغم انقساماته، لكن ظل السؤال مطروحاً بقوة في الأوساط الليبية عن مدى قدرة الأطراف الدولية الفاعلة على الحفاظ على تماسك سلطة الغرب ومنع انفراط عقدها، لما له من تداعيات على الوضع الأمني خصوصاً.
وفي أعقاب لقائه في مقر السفارة الأميركية في العاصمة التونسية، الاثنين الماضي، محافظ مصرف ليبيا المركزي، حذر نورلاند من أن محاولة استبدال الأخير بـ"القوة"، قد تؤدي إلى فقدان ليبيا الوصول إلى الأسواق المالية الدولية.
وأوضح بيان أميركي أن اللقاء ناقش "التحركات المقلقة للجماعات المسلحة حول مقر المصرف المركزي". وشدد نورلاند على أن "ظهور مجموعة جديدة من المواجهات بين الجماعات المسلحة في الأيام الأخيرة يبرز المخاطر المستمرة الناتجة من الجمود السياسي في ليبيا"، لافتاً إلى أن "التهديدات لأمن موظفي المصرف المركزي وعملياته غير مقبولة". كما شدد على أنه تجب حماية نزاهة مصرف ليبيا المركزي، مثله مثل مؤسسات ليبيا السيادية، مؤكداً أيضاً أن النزاعات حول توزيع ثروات ليبيا "يجب أن تُحل من خلال مفاوضات شفافة وشاملة نحو تحقيق موازنة موحدة تعتمد على التوافق".
وقبل ذلك، قال مصرف ليبيا المركزي في بيان إن مديره أطلع الموفد الأميركي خلال اللقاء على التطورات الأخيرة والتهديدات المتزايدة التي تطال أمن المصرف المركزي وسلامة موظفيه وأنظمته. ونقل البيان تأكيد نورلاند دعم الولايات المتحدة الكامل للمصرف تجاه تلك التهديدات والحفاظ على استقراره من أجل القيام بالدور المناط به على أكمل وجه.
وهذا هو اللقاء الثاني الذي يجمع نولاند والكبير خلال أربعة أيام، بعد لقاء عُقد في طرابلس الخميس الماضي، وناقش "الحاجة الضرورية إلى اتفاق قائم على التوافق بشأن موازنة موحدة بين الشرق والغرب"، وفق تصريح لنورلاند نشرته السفارة الأميركية عبر حسابها على منصة "إكس".
وبعد لقائه الكبير، كرر الموفد الأميركي خلال لقائه وزير الشؤون الخارجية التونسي نبيل عمّار، تأكيد رفض بلاده "فرض الحلول بالقوة من أي طرف"، معبراً عن الاستعداد للتنسيق مع تونس من أجل الدفع في اتجاه الوصول إلى تسوية سياسية مبنية على الحوار والتفاوض.
ولاحقاً قال المصرف المركزي في بيان، الثلثاء، إن محافظه ناقش في مكالمة هاتفية مع القائمة بأعمال رئيس بعثة الأمم المتحدة ستيفاني خوري "التهديدات المتزايدة التي تطال أمن المصرف المركزي وموظفيه وأنظمته وسلامتهم"، مشيراً إلى أن المحادثات تطرقت إلى "ضرورة الحفاظ على استقرار المصرف المركزي واستمرار قيامه بدوره المهم في الحفاظ على الاستدامة المالية للدولة".
ونقل البيان عن خوري إعرابها عن دعم الأمم المتحدة الكامل لمصرف ليبيا المركزي لدوره في الحفاظ على الاستقرار المالي والاقتصادي وقدرات البلاد.
لكن خوري اكتفت بالإشارة في تصريح مقتضب إلى أنها "ناقشت مع الكبير عملية إعداد الموازنة الأخيرة والاستقرار المالي والتطورات المثيرة للقلق في طرابلس"، مشيرة إلى تطرق المحادثات إلى "أهمية دور مصرف ليبيا المركزي في ضمان الاستقرار المالي لجميع الليبيين وأهمية الرقابة الشاملة والشفافية في الإنفاق المالي".
أستاذ القانون الدكتور راقي المسماري شدد على أنه "وفق القانون الليبي والإعلان الدستوري، فإن تعيين محافظ المصرف المركزي من اختصاص مجلس النواب (البرلمان)، مثل غيره من قيادات المؤسسات السيادية في ليبيا"، مؤكداً أن المجلس الرئاسي "لا يمتلك سلطة إقالته أو تعيين بديل منه، وإصداره أي قرارات في هذا الإطار يمثل اعتداءً يخالف القانون والدستور. الكبير هو الوحيد المخول استقبال الأموال من الخارج وتوزيعها في الداخل ولا يمكن نقل هذه السلطة إلى غيره".
وأوضح المسماري لـ"النهار العربي" أن التحشيدات العسكرية في طرابلس ومحاولة تغيير قوات "الردع" التي تؤمن المصرف المركزي، وإحلال أخرى موالية لرئيس حكومة الوحدة الوطنية مكانها، سبقها تحريض ضد الكبير وضغوط عليه بعد توقفه عن صرف الموازنات التي تطلبها حكومة الدبيبة، واعتراضه العلني على التضخم غير المسبوق في الإنفاق. وفي ظل هذه الفوضى لجأ المحافظ إلى الولايات المتحدة لحمايته.
وإذ اعتبر أن تصريحات نورلاند تحمل "تهديداً مبطناً للأطراف التي تهدد سلامة المصرف المركزي ومديره"، حذر من أنه من دون تدخل المجتمع الدولي فإن المصرف المركزي وأموال ليبيا في الخارج والداخل في خطر.
ويتفق المحلل السياسي إسلام الحاج مع المسماري في كون المجلس الرئاسي لا يمتلك السلطة على المصرف المركزي وتعيين مديره، لكنه ذهب في الوقت نفسه إلى التأكيد أن الإدارة المالية والاقتصادية لليبيا "باتت في عهدة الولايات المتحدة".
وقال لـ"النهار العربي": "المجلس الرئاسي لا يملك أي سلطات، بل إن مجلس النواب نفسه الذي اعتمد تعيين الكبير، كان قد أصدر قراراً قبل سنوات بإبعاده من منصبه، لكنه لم يتمكن من تنفيذ قراراه واستمر الرجل في منصبه بدعم القوى الدولية الفاعلة. ومعروف لدى كل الليبيين أن تغيير الكبير لا بد أن يمر عبر واشنطن".
واستبعد الحاج أن "ينتقل الصراع السياسي بين مكونات معسكر الغرب الليبي إلى حرب مفتوحة بين الميليشيات. ما يحدث صراعات محدودة على مناطق النفوذ لكنها لن تتوسع"، لافتاً إلى التدخل الأميركي أيضاً على خط السيطرة على المجموعات المسلحة في الغرب الليبي، وجهودها الأخيرة لتوحيدها تحت مظلة رئاسة الأركان.
أما الخبير المالي والمصرفي عبد اللطيف طلوبة فحذر من تداعيات احتدام الصراع بين المصرف المركزي وحكومة العاصمة على السياسات المالية للدولة، مشيراً إلى عودة ارتفاع أسعار صرف العملات الأجنبية أمام العملة المحلية في السوق الموازية إثر التوترات الأخيرة. وقال لـ"النهار العربي": "لا يمكن للسياسة النقدية أن تستقر في أي دولة من دون تنسيق وتعاون بين المصرف المركزي والحكومة، أما في ظل التصادم والانقسام اللذين تعانيهما ليبيا فسينعكس ذلك على تذبذب السوق وأول هذه الانعكاسات سيكون في زيادة الإقبال على العملات الأجنبية باعتبارها ملاذاً آمناً لأصحاب رؤوس الأموال".