بينما كانت التقلّبات الجوية تضرب بعنف مدن غات وبركت وتهالة بأقصى جنوب غرب ليبيا في أواخر الأسبوع الماضي، بثت منصات سلطة شرق ليبيا الإعلامية على الهواء مباشرة مشاهد لقائد في لواء خالد بن الوليد داخل ناقلة جند مدرعة، يدير عمليات إغاثة العالقين، ويعطي توجيهاته لقواته بالتدخّل السريع لإنقاذ سكان المدن التي غرقت في مياه الفيضانات المتدفقة من الحدود مع الجزائر، فيما كان الجسر الجوي بدأ تفعيله، ما عكس تمدّد مناطق سيطرة الجيش الوطني الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر، في مقابل انحسار مناطق خصومه.
جاء هذا المشهد بعد أيام قليلة من إعلان الجيش الوطني الليبي حشد قواته للسيطرة على كامل الحدود الليبية مع الجزائر، على الرغم من التحفظات الجزائرية العلنية، في خطوة أثارت ردات فعل واسعة على المستوى الدولي.
ولاحقاً، أعلن مجلس النواب تخصيص موازنة طوارئ بقيمة 500 مليون دينار ليبي (105 ملايين دولار) لمجابهة آثار التقلّبات الجوية التي مرّت فيها مدن الجنوب، وذلك في جلسة عقدها الاثنين، وفق ما أعلنه عبد الله بليحق، الناطق باسم المجلس.
خريطة النفوذ الليبية
وقبل أسابيع من الذكرى الرابعة لتوقيع المتقاتلين الليبيين اتفاق وقف النار في جنيف السويسرية، تدق أطراف دولية ناقوس الخطر. فثمة تحدّيات عدة تهدّد صمود الاتفاق واستمراره، فيما يبدو أن الهيمنة على خريطة النفوذ الليبية باتت في عهدة حفتر. أما معسكر خصومه فيتقاسم نحو ثلث الرقعة الليبية على انقسام مكوناته وصراعاتهم المحتدمة على مناطق السيطرة والنفوذ.
وبنظرة إلى الخريطة الليبية، حافظ معسكر الشرق الليبي على سيطرته على كامل الحدود مع مصر في أقصى الشرق، ويبسط سيطرته في الشمال الساحلي على البحر المتوسط حتى مدينة سرت في الوسط، وبات الجنوب بكامله أيضاً تحت سيطرته، خصوصاً كامل الشريط الحدودي مع السودان والنيجر وتشاد. ومدّ الجيش الوطني سيطرته إلى الجنوب الغربي، مسيطراً على كامل الشريط الحدودي مع الجزائر وصولاً إلى حدود مدينة غدامس عند المثلث الحدودي بين ليبيا والجزائر وتونس، على الرغم من أن تلك المنطقة بقيت على الحياد سنوات عدة.
أما معسكر الغرب فتنحصر مناطق سيطرته من مدينة سرت الساحلية في الوسط غرباً، وصولاً إلى مدينة رأس جدير الحدودية مع تونس، بطول 650 كيلومتراً تقريباً، مروراً بالعاصمة طرابلس ومدينتي مصراتة والزاوية، ومن رأس جدير نزولاً إلى الجنوب عند حدود مدينة غدامس، في ما يُشبه المربع ضلعه الغربي الشريط الحدودي الليبي مع تونس، بطول نحو 460 كيلومتراً.
تعزيزات تركية
وتبقى غدامس ومحيطها الصحراوي المترامي على الحياد، مشكلة منطقة تماس تفصل بين المتقاتلين، وسط مخاوف عبّرت عنها أطراف دولية والمعسكر المعارض لحفتر، فقد يهدف تحركه الأخير إلى قضم تلك المنطقة، لتتواجه قوات المعسكرين الليبيين المتخاصمين.
وعن ذلك، يقول محمد السنوسي، الباحث في الشؤون الأمنية والاستراتيجية، لـ"النهار العربي"، إن الصراع على غدامس ومحيطها يأتي من أهميتها على مستويين: "السياسي لموقعها الاستراتيجي عند النقطة الحدودية المشتركة بين ليبيا وتونس والجزائر؛ والاقتصادي لاحتواء أراضيها على احتياطيات ضخمة مؤكّدة من النفط والغاز"، إضافة إلى أهميتها التاريخية طبعاً، إذ كانت تربط طرق التجارة بين شمال أفريقيا ووسطها، "ومن يفرض سيطرته على المدينة يعزز ثقله السياسي والاقتصادي بقدرته على الربط بين ساحل البحر المتوسط وأفريقيا الوسطى ودول الساحل والصحراء التي تشهد نزاعات مسلحة".
ويحذّر السنوسي من أن الصراع على غدامس قد يُغرق ليبيا في بؤرة صراع دولي، "ويفتح جبهات لا تحتملها البلاد في وضعها السياسي والأمني الهش"، مضيفاً: "في أعقاب تحرك الجيش الوطني الأخير في الجنوب الغربي، عززت تركيا قواتها المتمركزة في قاعدة الوطية الجوية في غرب ليبيا، واستقدمت أسلحة متطورة، بينها منظومات للدفاع الجوي".
القتال مستبعد
وإذ يشدّد السنوسي على ضرورة إبعاد العسكر عن الصراع السياسي، "ولينخرطوا في محادثات لتشكيل قوات مشتركة يوكل إليها مهمّة تأمين المناطق الحدودية الجنوبية، تُجنّب البلاد المزيد من الأزمات"، يستبعد المحلل السياسي أحمد التهامي انهيار اتفاق وقف النار والعودة إلى السلاح، ويرى أن الاستنفار العسكري في معسكر غرب ليبيا في أعقاب تحرك الجيش الوطني الأخير "جاء للتغطية على الصراعات داخل هذا المعسكر نفسه، بمحاولة استدعاء العداوة مع الجيش الوطني وقائده".
ويضيف التهامي لـ"النهار العربي"، أن قوات الجيش الوطني لم تصل إلى غدامس، "إنما عززت قواتها الموجودة في مناطق الجنوب قبل نحو عام لتأمين الحدود، بعدما وقعت هناك مواجهات عدة مع الميليشيات التشادية".
وأعلنت رئاسة أركان القوات البرية في الجيش الوطني الاثنين الماضي، تعزيز وحداتها بالمثلث الحدودي مع النيجر والجزائر، أو ما يُعرف بـ"مثلث السلفادور"، تزامناً مع معارك خاضتها ضدّ مجموعات مسلحة تشادية قرب مناجم الذهب هناك.
وأوضحت في بيان مصور، أن تحرّك وحداتها نحو الجنوب الغربي للبلاد "يأتي ضمن خطة شاملة لتأمين الحدود الجنوبية، وتعزيز الأمن القومي في هذه المنطقة الاستراتيجية، بتكثيف الدوريات الصحراوية، والرقابة على الشريط الحدودي مع الدول المجاورة"، مشدّدة على أن هذا التحرك العسكري "لا يستهدف أحداً، إنما الهدف منه التصدّي لأي تهديد لسلامة الوطن واستقراره، في ظل التوتر في دول الجوار، ونشاط العصابات والجماعات المتطرّفة".
دعوات دولية وأممية
دولياً، أعربت سفارات الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا عن مخاوفها من التحركات العسكرية المستمرة في جنوب غرب ليبيا، وقالت في بيان مشترك: "في ظل الجمود المستمر في العملية السياسية في ليبيا، فإن مثل هذه التحركات قد تؤدي إلى تصعيد ومواجهة عنيفة".
ودعت القوات الأمنية في شرق ليبيا وغربها إلى "اغتنام الفرصة لتعميق التشاور والتعاون من أجل تنفيذ إجراءات فعّالة لتأمين الحدود وحماية سيادة ليبيا، بالنظر إلى المخاوف الحقيقية بشأن أمن الحدود على طول الحدود الجنوبية".
كذلك، عبّرت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عن قلقها من التحركات العسكرية الأخيرة. وحضّت في بيان، على تجنّب أي أعمال استفزازية من شأنها إخراج الأوضاع عن السيطرة، وتعريض الاستقرار الهش في ليبيا وسلامة المواطنين للخطر.
وعلى الخط نفسه، حضّت بعثة الاتحاد الأوروبي في ليبيا جميع الأطراف على التحاور لمنع المزيد من الانقسام، والحفاظ على الاستقرار وعلى اتفاق وقف إطلاق النار الموقّع في تشرين الأول (أكتوبر) 2020.