بلغت لعبة "عض الأصابع" بين الفرقاء الليبيين على تقاسم الثروة مداها، في إحدى أعنف الأزمات التي تمر على مصرف ليبيا المركزي منذ تأسيسه قبل ستة عقود، ما يضع سياسة البلاد النقدية على المحك، ويفاقم متاعب اقتصادها الهش.
وأظهر الصراع على المصرف المركزي ومجلس إدارته، للمرة الأولى خلال الشهور الأخيرة، تركيبة تحالفات مختلفه، إذ تتمسك السلطة التنفيذية المركزية: المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، بإطاحة المحافظ الصديق الكبير، فيما تُصر السلطة التشريعية بغرفتيها (مجلس النواب والأعلى للدولة) على بقاء الأخير في منصبه. أما ميليشيات العاصمة الرئيسية فخرجت من معادلة الصراع، بعد اجتماع عُقد قبل أيام ضم قادة: جهاز "دعم الاستقرار" المقرب من الحكومة، وجهاز "الردع مكافحة الإرهاب" الداعم للكبير، وخلص إلى تفضيل الجميع البقاء على الحياد. لتظل الأسئلة مطروحة بقوة على مائدة نقاشات الأوساط الليبية: من سينتصر في هذا الصراع؟ وما مصير منصب محافظ المصرف المركزي؟ وما هي تداعيات هذا الصراع على الوضعين السياسي والأمني الهشين في البلاد؟ وسط تسريبات خرجت من معسكر الشرق الليبي تحدثت عن محادثات تُجريها تركيبته لإغلاق حقول النفط الرئيسية الضخمة التي تُسيطر عليها، رداً على تصعيد سلطة الغرب المركزية ضد محافظ المصرف المركزي. وسبق ذلك تلويح آخر بنقل مقر عمل الكبير ونائبه إلى مدينة بنغازي (شرق ليبيا) بدلاً من المقر الرئيسي للمصرف المركزي في العاصمة طرابلس.
وبالنظر إلى خريطة التحالفات، فإن الكبير ربما يملك أرضية أكبر من خصومه، قد تساعده على البقاء في منصبه، لا سيما مع خروج الميليشيات من المعادلة، ودعم العواصم النافذة، لا سيما واشنطن ولندن له، لكن هذه التحالفات قد تتغير في أي وقت فجأةً مع الأخذ في الحسبان عدم وضوح موقف تركيا وتفضيلها حتى الآن النأي بنفسها عن الأزمة، ليبقى هذه الصراع مفتوحاً على كل الاحتمالات.
وكان المصرف المركزي الذي تأسس عام 1955، تحت مسمى "المصرف الوطني الليبي"، وبدأ نشاطه في نيسان (أبريل) عام 1956، قد أعلن في آب (أغسطس) من العام الماضي، عودته كمؤسسة "سيادية واحدة"، بعد 9 سنوات من الانقسام، بين مؤسسة رئيسية في العاصمة طرابلس، وفرع يقع في قلب مدينة بنغازي عاصمة الشرق الليبي، لكن المصرف لم يُمنح فترة طويلة لالتقاط الأنفاس ومعالجة تداعيات الانقسام، فسرعان ما انهار التحالف بين مديره الكبير ورئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة. وتفاقم الصراع بين الطرفين مع مطلع العام الجاري، ما ألقى بتداعياته نقصاً في السيولة المالية وسقوطاً تاريخياً للدينار أمام العملات الأجنبية.
والمصرف هو مؤسسة مالية مستقلة تُمثل السلطة النقدية في ليبيا، ويعد الجهة الوحيدة المعترف بها دولياً في ما يتعلق بإيداع إيرادات النفط.
وإذ رأى الباحث الأكاديمي في الشؤون السياسية والاستراتيجية محمد امطيريد أنه رغم أن الكفة تميل في هذه المرحلة نحو محافظ المصرف المركزي، لكن هذا لا يعني انتصاراً حاسماً في مواجهة المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية. ولفت إلى أن قرار المجلس الرئاسي أعاد إلى الكبير بريقه السياسي والتفتت حوله القوى الدولية النافذة، معتبراً أن قرار الميليشيات عدم الدخول على خط هذا الصراع "يحمل بين طياته دعماً للكبير". وأضاف: "إجراءات الرئاسي غير مدروسة وتتعارض مع القانون والاتفاق السياسي الموقع في مدينة جنيف السويسرية (عام 2020)، وتمثل تخبطاً وانتحاراً سياسياً، إذ إنها تسحب من أرضية سلطة الغرب المركزية، لا سيما أنها تتواكب مع انقسامات عنيفة تضرب تركيبة هذا المعسكر". لكن امطيريد أكد في المقابل لـ"النهار العربي" أن "هذا لا يعني خسارة نهائية للدبيبة ومعسكره، فالصراع سيستمر لجولات، ومنذ وصول الدبيبة إلى السلطة لم نعتد على هزيمته في مثل تلك الصراعات، خصوصاً أنه يستند إلى شبكة واسعة من المصالح السياسية والاقتصادية. لذلك أعتقد أنه من الأصلح أن ينقل الكبير مقر عمله إلى مدينة بنغازي".
وأوضح امطيريد أن محافظ المصرف المركزي "ظل في منصبه 14 عاماً، وطوال تلك السنوات كان يوصف بالحاكم الفعلي لليبيا لتحكمه في السياسات النقدية للبلاد وإنفاق الموارد وتوزيعها، واستطاع نسج تحالفات مع الحكومات المتعاقبة والميليشيات الرئيسية في العاصمة بهدف ضمان بقائه في المنصب"، مشيراً إلى أن الكبير كان حليفاً لرئيس حكومة الوفاق الوطني السابقة فائز السراج قبل أن ينهار هذا التحالف. وهو ما يتكرر اليوم مع حكومة الوحدة الوطنية ورئيسها. ورأى أن "ما يحدث الآن من تصدعات داخل تركيبة الحكم في العاصمة طرابلس قد يكون لحظة حاسمة تُمهد لإبرام اتفاق سياسي جديد برعاية دولية".
طرح امطيريد الأخير لمّحت إليه القائمة بأعمال رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا ستيفاني خوري، عندما اقترحت أمام مجلس الأمن "إجراء محادثات بين جميع الأطراف لدعم تدابير بناء ثقة تمهد لاستئناف العملية السياسية".
وخلال الجلسة التي عُقدت الثلثاء الماضي، استحوذ الصراع على رئاسة المصرف المركزي على مساحة واسعة من الكلمات، وأعادت خوري جهود تغيير الكبير إلى "انطباع لدى القيادات السياسية والأمنية في غرب ليبيا بأن المصرف المركزي يُيسر الإنفاق في الشرق لا في الغرب". وأوضحت في إحاطتها الدورية الثانية بشأن التطورات الليبية، أن هذه الخطوة جاءت "بعد أشهر من جهود وضع موازنة موحدة، واعتماد مجلس النواب موازنة رفضها قادة الغرب". وكررت في كلمتها إطلاق التحذيرات من أن "الإجراءات الأحادية في المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية، تقوض الاستقرار في البلاد".
وإذ سجلت خوري "زيادة التوترات في ليبيا عقب محاولات عزل محافظ المصرف المركزي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية"، اقترحت "إجراء محادثات بين جميع الأطراف لدعم تدابير بناء ثقة تمهد لاستئناف العملية السياسية"، بعدما لمّحت إلى توسط البعثة الأممية لـ"تهدئة حالة التوتر والتحضير لمحادثات سياسية". كما شددت على أن "الوضع القائم لا يمكن أن يدوم، ففي غياب المحادثات السياسية نتجه نحو زيادة الانفسام وانعدام الاستقرار. الليبيون أحبطوا من هذا الوضع، والكثيرون يعربون عن خوفهم من الحرب، ولا يرون مستقبلاً يستطيعون الحياة فيه ولا يستطيعون إلا التفكير في الرحيل وهذا غير مقبول".
إحاطة خوري جاءت غداة محادثات هاتفية أجرتها مع محافظ المركزي الليبي الذي تحدث هاتفياً أيضاً مع سفير المملكة المتحدة لدى ليبيا مارتن لونغدين.
هذه التطورات تواكبت، مع بيانات متبادله، الثلثاء، أصدر أولها المجلس الرئاسي، أكد فيه أن "مجلس إدارة جديد للمركزي سيباشر مهامه بداية الأربعاء"، مشيراً إلى أن لجنة إجراءات التسليم والتسلم استكملت إجراءات التسليم الإداري، وأن الأجهزة الضبطية وثقت في محاضرها امتناع الكبير الذي وصفه بـ"المحافظ السابق"، عن إتمام عملية التسليم.
وكان المجلس الرئاسي قد أعلن نهاية الأسبوع الماضي، تسمية محافظ جديد هو محمد عبد السلام الشكري، إضافة إلى تشكيل جديد لمجلس إدارة المصرف، يضم نائبين هما مرعي مفتاح البرعصي وعبد الفتاح الصغير عبد الغفار. في خطوة عزاها المجلس إلى "ضمان استقرار الأوضاع المالية والاقتصادية في البلاد"، مؤكداً أن التغييرات "تأتي لتعزيز قدرة المصرف المركزي على القيام بمهامه بكفاءة وفعالية، بما يضمن استمرارية تقديم الخدمات المالية وتحقيق الاستقرار الاقتصادي".
الأمر الذي رد عليه بيان حمل توقيع الكبير ونائبه مرعي البرعصي، أكدا فيه أن "المجلس الرئاسي غير مختص بإجراءات التغييرات"، وطمأنا جميع الأطراف المحلية والدولية إلى استمرار القطاع المصرفي في أداء أعماله. ولفت البيان إلى أن الكبير عقد لقاءات عدة مع رئيس المجلس الرئاسي وعدد من الأطراف الأخرى كان آخرها الاثنين لغرض التهدئة، ولبيان موقف مصرف ليبيا المركزي بشأن تلك القرارات وصدورها من جهة غير ذات اختصاص، إذ إن المصرف المركزي وفقاً لقانونه يتبع السلطة التشريعية، وإن تعيين المحافظ ونائبه ومجلس إدارته يتم وفقاً لهذا القانون والاتفاق السياسي.
ودخل رئيس مجلس النواب عقيلة صالح على الخط، مؤكداً في جلسة عُقدت الاثنين، أن محافظ مصرف ليبيا المركزي ونائبه مستمران في هذه المرحلة، إلى حين الاتفاق مع المجلس الأعلى للدولة على المناصب السيادية. وحذر من أن خطوة المجلس الرئاسي تسمية محافظ جديد للمصرف قد تكون سبباً في تجميد الأرصدة الليبية وانهيار العملة المحلية.
وجاء حديث صالح متوافقاً مع بيان أصدره المجلس الأعلى للدولة، أكد فيه هو الآخر استمرار الكبير في منصبه إلى حين البت في المناصب السيادية، معتبراً قرار المجلس الرئاسي "منعدماً ولا قيمة له ولا يعتد به". وأكد البيان أن المادة 15 من الاتفاق السياسي تنص على أن صلاحية البت في المناصب القيادية للوظائف السيادية ومنها محافظ المركزي، من حيث الإعفاء والتعيين، تكون بالتوافق بين مجلسي النواب والدولة، ولا علاقة للمجلس الرئاسي بها.