النهار

التونسيون يترقبون "غسّالة النوادر" متوجّسين من غياب دائم
روعة قاسم
المصدر: النهار العربي
ينتظر التونسيون كل عام في هذا الوقت بالذات، أي مع قرب انتهاء فصل الصيف ودخول فصل الخريف، نزول أمطار قوية من حيث الكميات في وقت وجيز ومحدود زمنياً، يسمونها "غسالة النوادر".
التونسيون يترقبون "غسّالة النوادر" متوجّسين من غياب دائم
مخاوف على الموسم الزراعي في تونس بغياب "غسالة النوادر".
A+   A-
 
ينتظر التونسيون كل عام في هذا الوقت بالذات، أي مع قرب انتهاء فصل الصيف ودخول فصل الخريف، نزول أمطار قوية من حيث الكميات في وقت وجيز ومحدود زمنياً، يسمونها "غسالة النوادر". فهذه الأمطار هي إيذان بانطلاق الموسم الفلاحي في ما يتعلق بالزراعات الكبرى التي تحتاج إلى حرث الأرض قبل بذرها، ولا يكون الحرث إلا بعد أن ترتوي الأرض جيداً وتصبح جاهزة للاستغلال.

أساطير قديمة
ولغسالة النوادر علاقة بالأساطير القرطاجية التونسية القديمة إذ كان القرطاجيون يعتقدون أن هذه الأمطار الموسمية تقوم بمسح الذنوب المرتكبة، وهي علامة من القوة المتحكمة في الكون مفادها أنها راضية على هذا الشعب وغفرت له ذنوبه ورزقته الخير. كما أنها، بحسب المعتقدات القرطاجية، تطهر الأرض وما عليها من الأدران ومما كان عالقاً بها ويدنسها من أوساخ، وأيضاً من قوى الشر التي كانوا يطردونها أيضاً بأقنعة خاصة صُنعت من الطين ولا يزال بعضها موجوداً اليوم في المتحف الوطني بباردو في العاصمة التونسية.

ومن العادات الموروثة عن قرطاج ومعتقداتها ولا تزال قائمة إلى اليوم في بعض المناطق التونسية رغم مرور آلاف السنين، أنه إذا تأخرت غسالة النوادر يقوم الأطفال بصناعة دمية يسمونها "أمك تنقو" ويجوبون بها الشوارع والأزقة مرددين "أمك تنقو يا نساء صبوا عليها سطل ماء"، فتخرج كل امرأة لسكب دلو من الماء أملا في نزول غسالة النوادر. وفي الحقيقة فإن "أمك تنقو" هي تحريف للإسم الأصلي وهو "تانيت" آلهة الخصب عند القرطاجيين والتي لا يزالون يطلقون اسمها على جوائز مهرجان قرطاج السينمائي، حيث ينال الفائز بجائزة أفضل فيلم في هذا المهرجان التانيت الذهبي، وثمة أيضا التانيت الفضي والتانيت البرونزي.

ويرى البعض أن القرطاجيين كانوا موحدين، وتانيت لم تكن آلهة وإنما امرأة صالحة قائمة تتعبد آناء الليل والنهار فتبركوا بها مثلما يتبرك المتصوفة بالأولياء الصالحين ويضعونهم في منزلة رفيعة. والدليل على ذلك أن الأطفال في مقطع آخر من نشيدهم لتانيت طلباً للمطر يقولون "قائمة يا قائمة إن شاء الله تروح (أي تعود) عائمة (أي مبللة)"، أي أن تانيت قائمة متعبدة صالحة وليست آلهة. وكل ما في الأمر أن مؤرخي الإغريق الذين اعتادوا على تعدد الآلهة وعلى جعل كل من هو في مقام رفيع في مرتبة الإله، اعتبروا تانيت الصالحة آلهة خصب القرطاجيين الذين استمرت جمهوريتهم قرابة الألف عام، وهي الدولة الأكثر استمراراً في تاريخ تونس.

تأثر كبير
يؤكد الناشط المدني والباحث في مجال الحفاظ على التراث سيف الدين الشواشي في حديث لـ"النهار العربي" أن ثمة ترابطاً وثيقاً بين غسالة النوادر وتانيت، وكذلك ثمة تأثير قرطاجي كبير على حياة التونسيين، يجهله الكثيرون، قائم إلى اليوم ويتجلى في اللغة والمأكل والملبس والعادات والتقاليد وكل شيء تقريباً. ويؤكد محدثنا أيضاً على أن تعاقب الحضارات على تونس بعد سقوط قرطاج، وقيام الرومان بنسبة كل ما هو إبداع قرطاجي في جميع المجالات لأنفسهم مع تزوير التاريخ ومحو إسم قرطاج من الوجود واستبداله بعبارة "البوني" أو "البونيقي"، لم يؤثر في تمسك التونسيين بالكثير من عاداتهم القرطاجية.

ويضيف الباحث التونسي: "إن الكثير من الأعمال الأدبية والفنية في تونس تعرضت لأسطورة ’غسالة النوادر‘، فأحد أشهر الأعمال المسرحية وأهمها في تاريخ المسرح التونسي، على سبيل المثال، يحمل إسم ’غسالة النوادر‘ وتدور مقاطع مهمة منه تحت أمطار نهاية الصيف وبداية الخريف المنهمرة على البطل والبطلة وهما يتحاوران. وبقيت هذه المسرحية خالدة إلى اليوم ومرجعاً في المسرح التونسي بفضل مخرجها وكاتب السيناريو وممثليها الكبار، وأيضاً بفضل انبثاقها من معتقدات التونسيين وروحهم وأصالتهم ممثلة بغسالة النوادر وما ترمز إليه من خير وبركة وتطهر من الآثام.

تشبه وظيفة غسالة النوادر إلى حد كبير وظيفة التعميد في المسيحية والاغتسال للطاهرة في الإسلام، والماء هو المشترك بين جميع هذه المعتقدات الدينية، فمنه جعل الله كل شيء حيّاً وبه يتطهر المرء لملاقاة ربه. وحضارة قرطاج هي حضارة حياة بامتياز تطورت فيها الزراعة وبرز فيها علماء من بينهم ماغون مؤسس علم الفلاحة وصاحب المدونة الفلاحية الشهيرة المنسوبة إليه، وقد تطرق ماغون فيها إلى أهمية مطر نهاية الصيف أو غسالة النوادر في نجاح موسم الزراعات الكبرى.

وللإشارة فقد عانى التونسيون كثيراً خلال السنوات الثماني الماضية من غياب غسالة النوادر أو تأخرها، وهو ما أثر سلباً على مواسمها الزراعية. ولعل ما يُخشى هو غيابها تماماً بفعل الجفاف والاحتباس الحراري والتغيرات المناخية فتصبح مجرد ذكرى وتضمحل معها المعتقدات والعادات.

اقرأ في النهار Premium