تُسابق الدبلوماسية الدولية الزمن محاولة حل النزاع على رئاسة المصرف المركزي في ليبيا المنقسمة بين سلطتين، وتداعياته على إغلاق الحقول النفطية الرئيسية، فيما لاحت ملامح اتفاق يجري إنضاجه، محوره مقايضة النفط بتقاسم الثروة بين الفرقاء.
وبحسب المعلومات التي حصلت عليها "النهار" عن المحادثات التي تقودها القائمة بأعمال الموفد الأممي إلى ليبيا ستيفاني خوري مع أطراف السلطة، بدعم أميركي، رفضت سلطة الشرق الليبي التراجع عن إغلاق حقول النفط الضخمة التي تُسيطر عليها، قبل حصول اتفاق ترعاه القوى الدولية الرئيسية وتضمنه، ويقضي بتقاسم الثروة بين الحكومة الموازية التي تُسيطر على شرق البلاد وجنوبها، والحكومة المركزية في الغرب، وبألا تتحكم الأخيرة برئاسة عبدالحميد الدبيبة، وتصفها سلطة الشرق بـ"غير الشرعية"، بالموازنة العامة للدولة وإنفاقها، على أن يتم في المقابل، الانخراط في محادثات بين السلطتين للاتفاق على تسمية محافظ جديد للمصرف المركزي ومجلس إدارته، نزولاً عند رغبة الدبيبة ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي في إطاحة المحافظ الصديق الكبير.
ومع أن هذا الاتفاق، إن جرى إتمامه، من شأنه تكريس انقسام البلاد، أُثيرت مطالبات في الأوساط الليبية، بتوسيع دائرة المفاوضات بين الفرقاء لتشمل اتفاقاً سياسياً جديداً يقضي بإنهاء الصراع بين الحكومتين، وتوحيد المؤسسات الرئيسية، ويُمهد لإنجاز الاستحقاقات الانتخابية المعطلة منذ العام 2021. لكن مصادر مطلعة على المحادثات استبعدت هذا الاتجاه، وأكدت لـ"النهار" الحاجة الملحة في هذه المرحلة لإنهاء الصراع على رئاسة المركزي، وإعادة استئناف إنتاج النفط وتصديره، لما له من تداعيات سلبية على اقتصاد ليبيا تفاقم معاناة شعبها. ورأت أن "فتح المجال أمام الحديث عن الإشكاليات السياسية من شأنه إطالة أمد الأزمة في ظل غياب الثقة بين الفرقاء واحتدام الخلافات في ما بينهم"، لكن المصادر استدركت بالقول إن "فتح خطوط اتصال بين المتصارعين السياسيين، وإنجاز اتفاق بشأن تقاسم الثروة من شأنه التمهيد لطاولة محادثات سياسية في مرحلة لاحقة".
ولمّح رئيس مجلس النواب عقيلة صالح إلى تفاصيل المقايضة، عندما شدد في تصريحات صحافية على أن "أي تسوية سياسية لا تضمن حقوق الأقاليم (الشرق والجنوب والغرب) في الثروة مرفوضة، للحفاظ على مسيرة الإعمار والتنمية وتحقيق العدالة"، بعدما شدد على أن منع تدفق النفط والغاز "سيستمر إلى حين رجوع محافظ المركزي الصديق الكبير إلى ممارسة مهامه القانونية حفاظاً على ثروة الشعب من العبث والسرقة".
أما رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي فسعى إلى مغازلة سلطة الشرق الليبي، عندما قال في بيان: "إننا نراهن على المسؤولية الوطنية لقيادة المؤسسة العسكرية (قائد الجيش الوطني خليفة حفتر)، لمنع مغامرات إغلاق ما تبقى من النفط الليبي الذي أغلق نصفه قبل أسابيع، الأمر الذي سينعكس سلباً على استكمال مشاريع التنمية غير المسبوقة في شرق البلاد وجنوبها وغربها والتي نثمن الجهود القائمة عليها ونحرص على استمرارها من دون مساومات سياسية". كما فتح الباب أمام تراجعه عن تعيين مجلس إدارة جديد للمصرف المركزي عندما دعا مجلس النواب إلى المسارعة في "اختيار محافظ للمصرف المركزي في جلسة قانونية علنية وشفافة وبالتشاور مع المجلس الأعلى للدولة".
تصريحات صالح والمنفي، الثلاثاء، جاءت غداة بيان أصدرته بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا كشفت فيه "عزمها عقد اجتماع طارئ تحضره الأطراف المعنية بأزمة مصرف ليبيا المركزي للتوصل إلى توافق يستند إلى مبدأ استقلالية المصرف المركزي وضمان استمرارية الخدمة العامة"، بعدما عبّرت عن أسفها العميق لما آلت إليها الأوضاع في ليبيا جراء القرارات الأحادية الجانب. ودعت إلى "تعليق العمل بكل القرارات الأحادية المتعلقة بمصرف ليبيا المركزي، والرفع الفوري للقوة القاهرة عن حقول النفط، والكف عن إقحام مصدر الدخل الرئيسي للبلاد في الصراعات السياسية".
وسارعت الولايات المتحدة، عبر بيان أصدرته الثلاثاء سفارتها في ليبيا، إلى الترحيب بالمبادرة الأممية التي "تمهد الطريق إلى حل أزمة المصرف المركزي"، داعية جميع الأطراف إلى اغتنام هذه الفرصة. كما طالبت بمحاسبة صارمة للمسؤولين عن الاعتقال التعسفي والترهيب لموظفي المركزي.
وفي وقت سابق الأربعاء، أعلنت الحكومة الموازية في شرق ليبيا برئاسة أسامة حماد "حالة القوة القاهرة" على كل الحقول والموانئ والمؤسسات والمرافق النفطية، وإيقاف إنتاج النفط وتصديره. وبررت قرارها بأنه رد على "الاعتداءات على قيادات المصرف المركزي وموظفيه".
أستاذ العلاقات الدولية الدكتور مسعود السلمي اعتبر ما يجري في المشهد الليبي الآن "جولة جديدة من الصراع على الثروة والمناصب بين الأطراف المتصارعة في المشهد الليبي... وتداعيات هذا الصراع وصلت إلى قطاع النفط المصدر الرئيسي للدخل في ليبيا وكذلك إلى المصرف المركزي المسؤول الرئيسي عن سياسات البلاد النقدية".
وإذ أيّد دعوة القائمة بأعمال الموفد الأممي الأطراف الليبية إلى مائدة حوار، شدد لـ"النهار" على "ضرورة أن تمتلك خوري أدوات ضغط بدعم المجتمع الدولي، فمن دون ذلك لن تتفق هذه الأطراف". وأضاف: "رغم ضبابية المشهد ومستقبله، المؤكد أن تداعيات هذا الصراع ستُفاقم معاناة الشعب الليبي الذي يدفع ثمن الصراع بين الأطراف السياسية". ورأى أن قرار سلطة الشرق إغلاق حقول النفط "خطوة أخرى من شأنها تأزيم الموقف السياسي، خصوصاً أن لها تداعيات على المستوى الدولي، وكان يجب عدم اللجوء إليها مهما كانت المبررات"، مشدداً على ضرورة تحييد قطاع النفط وكذلك المصرف المركزي عن المناكفات السياسية.
لكن عضو مجلس النواب عيسى العريبي دافع عن خطوة سلطة الشرق الليبي إغلاق الحقول النفطية، معتبراً أن تحرك المنفي والدبيبة لإطاحة محافظ المركزي الصديق الكبير، الذي عده "غير قانوني"، جاء "رداً على اتفاق الأخير مع حكومة حماد على تطبيق موازنة موحدة يحصل بمقتضاها شرق ليبيا وجنوبها على نصيبهما من موارد البلاد". وتساءل: "كيف تسمح سلطة الشرق الليبي بتدفق النفط وبأن تُهيمن حكومة الوحدة الوطنية على عائدات تصديره من دون أن يحصل باقي الأقاليم على نصيبهم من ثروة البلاد؟".
وإذ أكد العريبي لـ"النهار" أن "رفض إطاحة الكبير ليس تمسكاً بشخصه، بل اعتراضاً على إجراء غير قانوني أصدره من لا يمتلك سلطة إصداره"، محمّلاً رئيس المجلس الرئاسي مسؤولية الفوضى التي تعيشها البلاد، ومطالباً إياه بسحب قراره إطاحة الكبير من منصبه، وأن يترك الأمر إلى اجتماع يجري الترتيب له بين مجلسي النواب والأعلى للدولة.
أما المحلل السياسي الليبي محمد الأسمر فاستبعد، في تصريح لـ"النهار"، معالجة تصاعد الصراع على رئاسة المصرف المركزي وتداعياته في وقت قريب "من دون تدخل دولي مباشر"، محذراً من أن تفاقم هذه الأزمة سيؤدي إلى "شلل في الاقتصاد والخدمات المصرفية"، وستكون له تداعيات وخيمة على الشعب الليبي.
وإذ أكد دور البعثة الأممية في ليبيا في رعاية التوافقات بين الفرقاء، انتقد دعوتها إلى اجتماع جميع الأطراف للاتفاق على حل للأزمة، بينما كان عليها تطبيق مواد الاتفاقات السياسية التي رعتها واعتمدها مجلس الأمن، والتي تُعطي سلطة تعيين محافظ المصرف المركزي وإقالته حصراً لمجلس النواب بالتوافق مع المجلس الأعلى للدولة ضمن سلطاته تعيين قيادات ما يُسمى بـ"المناصب السياسية". ورأى أنه رغم التعقيبات الدولية المؤيدة لاستمرار الكبير في منصبه والداعمة لضرورة اتفاق النواب والأعلى للدولة على مسألة تغييره، لم تتدخل البعثة الأممية بقوة لمنع تدخلات المنفي والدبيبة في مستقبل المصرف المركزي، ما أتاح لهما السيطرة على مقره الرئيسي في العاصمة طرابلس، الأمر الذي فاقم الأزمة وأعاد البلاد إلى الخلف سنوات، بينما كان يفترض التركيز على إنجاز الاستحقاقات الانتخابية المعطلة منذ ثلاث سنوات.