في مشهد غير معتاد، سارع المرشحون الثلاثة المتنافسون في انتخابات الرئاسة الجزائرية، بعد ساعات قليلة على إعلان النتائج، إلى انتقاد الأرقام التي أعلنها رئيس السلطة المستقلة للانتخابات محمد شرفي.
وقال المتنافسون الثلاثة، في بيان مشترك موجه إلى الرأي العام، إن الأرقام متضاربة وتحمل ضبابية وغموضاً وتناقضاً.
وكان شرفي قد عرض بعد طول انتظار وتأخر دام 6 ساعات عن الموعد المحدد، نتائج الاقتراع العام، وعدد المقترعين ونسبتهم العامة لكل مرشح، وهو ما اعتبره الجميعُ "أمراً محيّراً".
واعتاد الجزائريون خلال المواعيد الانتخابية السابقة صدور إعلان تفصيليّ دقيق لنتائج الانتخابات، خاصة في ما يتعلّق بالاستحقاق الرئاسي باعتباره الأهم في مسار ترسيخ الديموقراطية ومبدأ التداول على السلطة التي تنادي به الطبقة السياسية في الجزائر.
سابقة...
لم يكن البيان المشترك الصادر عن مديريات حملات المرشحين الثلاثة ليُحدث لغطاً لو لم ينضمّ إليه المرشح الفائز، إذ كثيراً ما عارض الخاسرون وشكّكوا في نتائج الاقتراع، بخاصة خلال حقبة الرئيس السابق الراحل عبد العزيز بوتفليقة (1999-2019)، وهو ما وصفه المحلل السياسي محمد ديلمي في حديث إلى "النهار العربي"، بـ"السابقة المهمة في تاريخ الانتخابات في الجزائر وعلى المستويين العربي والأفريقي"، مضيفاً أن لذلك دلالات تعني "تمسك السلطة بالفعل الديموقراطي واحترام إرادة الشعب".
ورأى ديلمي أن اتفاق المرشحين الثلاثة على بيان مشترك بعيداً عن تناقضات نتائج كل واحد منهم، يرسّخ مبدأ "التنديد بكل الممارسات التي تمسّ بمصداقية العملية الانتخابية"، لافتاً إلى أن "انتخابات الرئاسة مفصلية وذات أهمية بالغة للحفاظ على الزخم الديموقراطي وعلى الاستقرار السياسي الذي تنعم به البلاد بغضّ النظر عن الفائز فيها والخاسر"، ومؤكداً أن الاجتماع على كلمة واحدة بين المرشحين هو "رسالة واضحة إلى كل من يحاول ركوب موجة الالتفاف على إرادة الشعب المعبر عنها في الصناديق تحت أي مسمى أو ذريعة".
ورغم حصوله على نسبة مريحة جداً تمنحه الأمان بمواصلة رئاسة الجزائر لخمسة أعوام أخرى، على عكس انتخابات 2019 حين لم يحصل على أغلبية مطلقة، شارك الرئيس عبد المجيد تبون منافسَيه الخاسرين امتعاضهما من أرقام السلطة المستقلة للانتخابات، وهو ما وصفه ديلمي بـ"الالتزام".
وقال ديلمي: "الرئيس تبون ليس في حاجة لتصرف أو أي سلوك يمسّ بمصداقية الانتخابات عامةً. لقد تعهّد قبل انطلاق العملية الانتخابية الشفافية واحترام إرادة الشعب". وأكد أن السلطة المستقلة للانتخابات اجتهدت "اجتهاداً غير منطقيّ، والدليل إلى ذلك التناقض الظاهر في بياناتها بخصوص نسبة المشاركة"، داعياً إياها إلى "ضرورة التوضيح للرأي العام تلك الطريقة التي تم بها احتساب الأصوات والنسب وإعلان النتائج".
وأعرب ديلمي عن اعتقاده أن "تغيّراً أكيداً سيطرأ على طبيعة عمل هذه الهيئة بما يتوافق والمتغيّرات الحالية للبلاد ومسارها في تعميق الديموقراطية".
"جهات خفية مارست التضليل"
وفي وقت أعلنت فيه أغلب الأحزاب السياسية، بخاصة تلك الداعمة للرئيس الفائز بولاية ثانية، إلغاء مؤتمراتها الصحافية التي كانت مقررة الإثنين، سارع مرشح حزب "حركة مجتمع السلم" عبد العالي حساني، إلى عقد ندوة صحافية، أكد خلالها أن "جهات خفيّة مارست التضليل في إعلان النتائج وأعادونا إلى زمن الأحادية".
وقال حساني الذي حاز 3.17 في المئة من الأصوات، إن أرقام سلطة الانتخابات "مزوّرة ولا نعترف بها"، مؤكداً توجهه لإيداع طعن أمام المحكمة الدستورية.
بدوره، قال مرشح حزب جبهة القوى الاشتراكية يوسف أوشيش، إن "إعلان أرقام مزيّفة لا تتطابق حتى مع المحاضر التي قدمتها مراكز الاقتراع لممثلي المرشحين ومع الأصوات المدلى بها في الواقع، يعد بمثابة التفاف على الإرادة الشعبية"، مؤكداً أن هذا الأمر "يضع البلاد في وضعية غير مُريحة إطلاقا بل وخطيرة. فاللحظة حساسة، ويتوجب على كل واحد منا نحن الوطنيون المخلصون تحمل مسؤولياتنا والارتقاء إلى مستوى الجزائر ومستقبلها وتطلعات شعبها".
ويبدو أن "البيان المشترك" هزّ أركان الانتخابات الرئاسية التي عمّها الهدوء، وأربك الطبقة السياسية بكل أطيافها منذ ليلة الأحد، بخاصة تلك الداعمة للرئيس تبون، التي راحت تهلّل لفوزه الكاسح بأكثر من 94 في المئة، وأعلنت على الفور عقد مؤتمرات صحافية لعرض "اجتهاداتها" وللحديث عن تعبئتها الشعبية التي أفضت إلى تحقيق مرشحها هذا النجاح الباهر، غير أنها سرعان ما أعلنت إلغاء كل خرجاتها في إشارة إلى انتظار ما ستُسفر عنه مستجدات "البيان المُشترك".
"هدية مسمومة" وهيئة "مهدّدة"
وأكد الإعلامي عثمان لحياني، بخصوص انضمام الرئيس تبون إلى حملة الاحتجاج على السلطة المستقلة للانتخابات، أن الرئيس الفائز بولاية ثانية "رفض هديّة مسمومة قُدّمت له، تعزله أكثر وتسحبُه إلى طرف واحد"، لافتاً إلى "الخطورة السياسية للبيان كونه ينسف العملية الانتخابية ويشكك في شفافيتها، ويُقر بوضوح بوجود تلاعب في الأرقام والنتائج".
وكتب لحياني في منشور له على منصة "فايسبوك"، أن البيان المشترك الصادر عن المرشحين الثلاثة يضع السلطة المستقلة الانتخابات "قيد أسئلة المصداقية"، وهي مُطالبة "بكشف الحقائق التي جعلت النتائج تبدو على هذا النحو".
وأضاف أن هذا الوضع "غير مسبوق سياسياً، قد لا يرقى إلى حالة أزمة لكنه يعطي مؤشرات واضحة إلى وجود مسافة بين تصورات وإرادات"، وأن الأرقام المُعلنة من قِبل رئيس سلطة الانتخابات تعدّ "نتيجة هندسيّة أُريد لها أن تكون كذلك".
أما المحلل السياسي سليم بتة، فأكد أن سلطة الانتخابات تمثل "عبئاً مالياً كبيراً على خزينة الدولة، بخاصة مع استحداث المحافظات الجديدة"، ما يعني التفكير الجدّي في إعادة النظر في منظومة تسييرها، مؤكداً أن إجماع المرشحين الثلاثة والطبقة السياسية على التضارب الحاصل في أرقام السلطة المستقلة للانتخابات ورئيسها، له مبرراته وتداعياته أيضاً.
وذهب بتة إلى الإقرار بأن السلطة المستقلة للانتخابات تكون "قد وقّعت شهادة وفاتها، بخاصة أن انتقادات كثيرة كانت وُجّهت إليها خلال مختلف العمليات الانتخابية التي جرت منذ تأسيسها سنة 2019"، وأضاف: "الامتعاض الحاصل والإجماع على المغالطات التي جاءت في إعلان رئيس السلطة نتائج الاستحقاق الرئاسي، تُحيلنا إلى نقاش قديم في جدوى هيئة مشرفة على الانتخابات لم تكن في مستوى تطلعات لا المرشحين ولا الناخبين"، لافتاً إلى أن إنشاء سلطة الانتخابات قبل 5 سنوات، كان بهدف "إخراج العملية الانتخابية من عباءة منظومة الحكم ومنح الاستحقاقات، سواء رئاسية أم نيابية، تلك المصداقية التي كانت مفقودة خلال مرحلة سابقة"، يختم بتة حديثه إلى "النهار العربي".