يبدو أن الاتحاد العام التونسي للشغل الذي اختار منذ فترة النأي بنفسه عن الصراع السياسي الدائر في البلد، قرر الخروج عن صمته معلناً عزمه على تنفيذ إضراب عام. وإذا كان لم يحدد تاريخ تحركه تاركاً ذلك للمكتب التنفيذي، فإن الإعلان يأتي في وقت لافت تزامناً مع بدء العد التنازلي للانتخابات الرئاسية، ما يدفع إلى التساؤل عن تداعيات القرار على المشهد السياسي عموماً وعلى المنظمة النقابية خصوصاً.
ويعد الإضراب العام في تونس عادة دليلاً إلى وجود أزمة كبيرة مع السلطة. ويحظى الاتحاد العام للشغل بنفوذ كبير في البلاد ولديه نحو مليون منتسب، وهو أقوى منظمة عمالية في تونس تنضوي تحتها كبريات نقابات القطاعين العام والخاص، لذلك تتفادى كل الحكومات الدخول في صدام معه.
وفي العام 2014، قاد الاتحاد، مع هيئات أخرى، حواراً وطنياً بين الإسلاميين والمعارضة انتهى بإجراء انتخابات جديدة حينها وكوفئ مع شركائه بجائزة نوبل للسلام.
توقيت لافت
ويأتي إعلان إضراب الاتحاد الجديد في وقت يسيطر فيه الاستحقاق الانتخابي على اهتمام التونسيين، ما يطرح التساؤل عن علاقته به، وهل هو محاولة من المنظمة النقابية للضغط على السلطات، خصوصاً أن الاتحاد سبق له أن أصدر بياناً ينتقد فيه هيئة الانتخابات، مشيراً إلى "غياب المناخ الملائم والشروط الضرورية لانتخابات ديموقراطية وتعددية وشفافة ونزيهة".
والأحد، قال الناطق الرسمي باسم الاتحاد سامي الطاهري إنّ الاتحاد "قرر خلال مجلسه الوطني عدم مقاطعة الانتخابات الرئاسية 2024".
ولا تربط الاتحاد علاقة جيدة بالرئيس قيس سعيّد، وكثيراً ما هاجم الأخير قيادات المنظمة العمالية ورفض مراراً دعوتها إلى إجراء حوار وطني على شاكلة حوار 2014، بينما انتقد الاتحاد سياسات الأول وخياراته في مناسبات عدة.
ولم يلتق سعيّد منذ أن أمسك بكل السلطات في تونس الأمين العام لاتحاد الشغل إلا في مناسبات قليلة، فيما اقتصر التواصل بين المنظمة العمالية والسلطة على التحاور مع رئاسة الحكومة.
تحرك نقابي
ويعتقد عدد من المراقبين أن قرار الاتحاد الإضراب العام في مثل هذا التوقيت هو قرار سياسي، حتى وإن غُلف بمطالب نقابية. ويرى أصحاب هذا الرأي أن الاتحاد يحاول فرض نفسه من جديد كلاعب أساسي في المشهد العام.
وقال الاتحاد إنه أقر الإضراب من أجل "المطالبة بالحق في التفاوض وفتح الحوار الاجتماعي واحترام الحق النقابي وتطبيق الاتفاقيات والاستجابة للمطالب الاجتماعية".
وينفي المحلل والكاتب الصحافي المقرب من اتحاد الشغل صبري الزغيدي وجود علاقة بين الإضراب العام والانتخابات الرئاسية، مؤكداً أنه "إضراب نقابي بامتياز".
ويوضح لـ"النهار العربي" أن الإضراب يرفع مطالب نقابية واجتماعية، من بينها احترام الحق النقابي وتطبيق الاتفاقيات المبرمة بين الحكومة والاتحاد.
إلا أن الزغيدي يقرّ في الوقت ذاته بأنه لا يمكن عزل الإضراب عن الواقع السياسي الذي تعيشه تونس، لافتاً إلى أن "الاتحاد يتابع بانشغال ما يحدث، ويرى أن المناخ العام المرتبط بالانتخابات الرئاسية متوتر، لذلك اتخذ موقفاً منها وقرر عدم مقاطعتها".
تصعيد أزمة داخلية؟
لكن الإضراب المعلن قد لا يبدو بعيداً عن الأزمة الداخلية للمنظمة العمالية، وهو ما يجعل البعض يؤكد أنه محاولة لتصدير أزمة داخلية عبر إعطائها غلافاً سياسياً، فمنذ عام 2020 يعيش الاتحاد على وقع انقسامات داخلية بسبب رفض جزء من قياداته التمديد للمكتب الحالي.
ويؤكد المحلل السياسي مهدي المناعي أن الاتحاد يعيش أزمة داخلية، مشيراً، في تصريح إلى "النهار العربي"، إلى وجود حديث عن "شبهات فساد" تحوم حول عدد من النقابيين، علاوة على انتقادات كبرى لخياراته بالتخلي عن دوره النقابي ولعب أدوار أخرى.
ويلفت إلى أنه على مر التاريخ كلما تجاوز الاتحاد الحدود المسموح له بالتحرك داخلها ودخل في صدام مع السلطة كانت النتائج كارثية عليه، مذكراً بما حدث في أزمتي 1978 و1985.
ويرى أن الاتحاد "فقد شعبيته" لأن الشعارات التي كان يرفعها وكانت تحرك الشارع تتبناها السلطة اليوم "بل تبالغ فيها"، مثل "رفض إملاءات صندوق النقد الدولي والدعوة إلى القطع مع التشغيل الهش"، مؤكداً أن الاتحاد لم يعد بمقدوره الضغط على السلطة، ما يجعله في موقف العاجز.
ويرى المناعي أنّه لن يكون لهذا الإضراب أي تداعيات على الانتخابات الرئاسية الحالية، مشيراً إلى أن "الشارع يعتبر الاتحاد شريكاً في فشل كل الحكومات السابقة في إدارة الشأن العام وأغرق البلد في الإضرابات طيلة أكثر من 10 سنوات".
ويتوقع ألا يتم تنفيذ هذا الإضراب، مؤكداً أنه "السلاح الأخير للاتحاد للعودة إلى المشهد".
وتقول المحللة السياسية آسيا العتروس إنّ "المشهد الراهن قبل شهر من موعد الانتخابات الرئاسية يتسم بكثير من التشنج الذي طال العلاقة القائمة بين اتحاد الشغل والسلطة، على خلفية القطيعة المعلنة بين الطرفين".
وتلفت في تصريح إلى "النهار العربي" إلى أن الاتحاد لم يعلن موعداً للإضراب العام، وهو ما قد يشير إلى أنه "يترك مجالاً للمناورة وربما يعتبر أنه يمكن أن يعيد مد الجسور المقطوعة مع السلطة"، لا سيما أنه كان من بين داعمي مسار 25 تموز (يوليو).
وترى أن هذه "الدعوة إلى الإضراب العام في مثل هذا التوقيت تضع الاتحاد والسلطة معاً قيد اختبار مصيري، والبلاد لا تحتمل تداعيات إضراب يفاقم أزماتها الاقتصادية، كما أنه لا يمكن في كل الحالات القبول بإسقاط الاتحاد من المعادلة، أو الرهان على إنهاء وجوده التاريخي".