في مقهى شعبي في ضواحي مدينة أريانة في العاصمة تونس، يجلس أسعد ممعناً نظره في شاشة هاتفه المحمول، التي كان يظهر عليها صور المرشحين الثلاثة للانتخابات الرئاسية، كما نشرتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. يرتشف أسعد قهوته المرّة "كمرارة العيش في تونس"، كما يقول بنبرة فيها الكثير من الكوميديا السوداء، وينفث دخان سيجارته الرخيصة قبل أن يترك إصبعه يتجول على صفحة حسابه الشخصي على "فايسبوك".
لم يحدّق أسعد في صورة المرشحين للانتخابات إلّا لبضعة ثوانٍ، مفضّلاً أن يشاهد فيديو يتحدث عن آخر أخبار ناديه المفضّل الترجي الرياضي التونسي أو "الدولة" كما يصفه. يقول لـ"النهار العربي": "أخبار النادي تعنيني أكثر من أخبار السياسة، فالأمر لا يستحق الكثير من التفكير، وأنا اتخذت قراري".
فضّل أسعد عدم الكشف عن هوية من سيمنحه صوته، لكنه أكّد أنه لن يقاطع الانتخابات وسيذهب للتصويت لمن يرى أنه "الأنظف"، على حدّ قوله.
في أيام قليلة
انطلقت الحملة الانتخابية للرئاسيات في تونس السبت، وتستمرّ لغاية 4 تشرين الأول (أكتوبر)، ليكون يوم 5 تشرين (أكتوبر) المقبل يوم صمت انتخابي، يليه يوم الاقتراع.
يتنافس في هذه الانتخابات ثلاثة مرشحين: رئيس حزب "حركة عازمون" العياشي زمال، ورئيس حزب "حركة الشعب" زهير المغزاوي، والرئيس الحالي قيس سعيّد.
وسيقوم نحو 1000 مراقب بمراقبة الحملة الانتخابية وفق عضو هيئة الانتخابات نجلاء عبروقي، التي أكّدت أن الهيئة ضبطت شروط الحملة وسقف تمويلها.
ويبلغ عدد الناخبين التونسيين نحو 9,7 ملايين ناخب، وستجري الانتخابات في تونس وفي 48 دولة حول العالم.
انقسام شعبي
إلى جانب أسعد، جلس كهل خمسيني أكّد لـ"النهار العربي"، أنّه لم يحسم أمره بشأن الانتخابات، مشيراً إلى أنّه لا يتابع ما يحدث في الفترة الأخيرة، لكنه يعرف أسماء المرشحين. وبكثير من الحسرة يقول: "فقدنا الأمل في كل شيء. هل ستغيّر هذه الانتخابات أوضاعنا؟ لا أعتقد ذلك، بل ستكون كأي انتخابات سابقة".
قاطعه أسعد مشدّداً على أن الانتخاب واجب حتى وإن فشل كل المسؤولين السابقين في تحقيق ما وعدوا به.
احتد النقاش بين الرجلين وتمسك كل بوجهة نظره في مشهد يشبه انقسام الفاعلين السياسيين الذين استبق جزء منهم الحملة بتظاهرة مساء الجمعة شارك فيها بضعة آلاف، رفعت شعارات ضدّ السلطة، مطالبة بحرّية العمل السياسي والحقوقي وعدم التضييق على الحرّيات.
وتقول المعارضة إن الأجواء الانتخابية متوترة، ويقبع أحد المرشحين الثلاثة للرئاسة، وهو العياشي زمال، في السجن، بسبب شبهة تزوير تزكيات شعبية.
وقالت العبروقي إن من حقّ فريق حملته القيام بالحملة الانتخابية لمرشحهم، لكنها استدركت مؤكّدة أن مشاركته فيها من عدمها هي من شأن القضاء.
حملة قبل الحملة
ورغم أنّ الموعد الرسمي لانطلاق الحملة الانتخابية كما حدّدته هيئة الانتخابات هو 14 أيلول (سبتمبر)، لكن متابع الشأن العام في تونس يلاحظ أن أجواءها انطلقت قبل ذلك، وكانت فضاءات التواصل الاجتماعي المكان الذي اختاره أغلب الفاعلين السياسيين لبدء حملتهم الانتخابية قبل موعدها.
منذ أسابيع، تنشط عشرات الحسابات على مختلف شبكات التواصل الاجتماعي للترويج لهذا المرشح أو لضرب ذاك المرشح. واستغل المرشحون وأنصارهم، عدا الرئيس سعيّد، هذه المواقع الإلكترونية التي تلقى رواجاً كبيراً لدى التونسيين، وهي مصدر المعلومة الأول في البلد، لتكون الفضاء الذي يخاطبون الناخبين من خلاله.
ولم يكن خافياً أن بعض الحسابات التي تنشط بكثافة وتنشر يومياً العشرات من المنشورات لفائدة أو ضدّ أحد المرشحين كانت مدعومة، ما يعني أن جهة ما تقف وراءها وتمولها، وفق الخبير في الاتصال محمد أمين الحتيري، الذي يقول لـ"النهار العربي": "صار استعمال هذه الفضاءات جزءاً من العمل السياسي، ليس في تونس وحدها بل في كل دول العالم"، مشيراً إلى أن الكلّ يدرك حجم تأثير هذه المواقع على الناخبين، فيحاول الاستفادة منها "لأن الدعاية هناك سريعة وأقل كلفة، ويمكن أن تصل إلى أكبر عدد ممكن من الشرائح العمرية والاجتماعية والثقافية".
في المقابل، يحذّر الحتيري من استخدام هذه المواقع لبثّ الشائعات، مؤكّداً أنه يمكن التلاعب بالصور والفيديوهات ونشر أخبار زائفة، من شأنها أن تؤثر في قرار الناخب.
إجراءات وضوابط
وتحسباً لتأثير هذه المنصات على شفافية الحملة الانتخابية، أصدرت هيئة الانتخابات بياناً ضبطت فيه الآليات والإجراءات المتعلقة بمتابعة وسائل الدعاية الإلكترونية والوسائط الإشهارية والتثبت من احترامها مبادئ وقواعد الحملة الانتخابية الرئاسية.
ودعت المرشحين إلى مدّها بقائمة بالمواقع والوسائط الإلكترونية وحسابات التواصل الاجتماعي التابعة لهم، والمزمع استخدامها في الحملة الانتخابية قبل انطلاقها. كما طالبتهم بمدّها بما يثبت تحمّل المرشح لنفقات دعم الصفحات الإلكترونية، إضافة إلى إعلامها بكل دعاية تمّت لفائدتهم من دون طلب منهم.
العودة للمدارس أهم
الانتخابات الحالية مختلفة عن كل انتخابات انتظمت بعد حوادث 2011. ولا يبدو أن الشارع التونسي معني بأجواء الحملة الانتخابية، خصوصاً أنها تنطلق تزامناً مع موعد العودة إلى المدارس، المناسبة التي تثقل كاهل أغلب العائلات التونسية بسبب ارتفاع كلفة اللوازم الدراسية، مقارنة بتراجع القدرة الشرائية للتونسيين عموماً.
وتقول سيدة كانت تقف قرب بسطة لبيع لوازم الدراسة الرخيصة، إنّ آخر ما يعنيها في الوقت الحالي هو أخبار الحملة الانتخابية. وتؤكّد لـ"النهار العربي" أن همومها الحالية محصورة في توفير لوازم الدراسة غالية التكلفة لأبنائها، وتأمين عودتهم إلى مدارسهم رغم ظروفها المادية الصعبة. أما بالنسبة إلى الانتخابات، فلم تحسم رأيها بعد بخصوصها، وتقول مازحة: "يعمل الله نهارتها"، أي نترك الأمر على الله في ذلك اليوم.