على رغم "الطريقة البدائية" المستخدمة والجهد المبذول لتأمين الماء، غير أن السلطات المحلية الجزائرية باتت تولي أهمية كبيرة لنظام "الفقارة" بالنظر إلى فاعليته وقدرته في الحفاظ على هذا المورد وحماية البيئة.
والنظام المذكور ليس أحد الأساليب المتاحة لتوفير عصب الحياة فحسب، بل هو جزء من التراث وحضارة الإنسان واستقراره وارتباطه بالأرض، بحسب المهندسة الزراعية حليمة خالد، وهي مديرة مزرعة البرهنة وإنتاج البذور في محافظة المغير (جنوب شرقي الجزائر) .
ولا يزال السكان الأصليون في محافظة أدرار (في الجنوب) يعتمدون على الطريقة التقليدية في التزود بالماء الصالح للشرب والذي يسمى بـ"الفقارة". وتقوم الطريقة على حفر بئر، وكلما زادت الحاجة إلى الماء أو نضب ماء البئر يتم حفر بئر أخرى وهكذا دواليك، وتربط الآبار بعضها ببعض إلى أن تتشكل سلسلة تصب عبر مجرى رئيسي في حوض يسمى "القسرية"، تتم من خلاله عملية التوزيع، وكلما زاد عدد الآبار يزداد عمقها بحثاً عن زيادة التدفق.
التّنوع البيولوجي
وتعتبر "الفقارة" من أهم مصادر تزويد السبخات بالماء، وهنا تمكن الإشارة إلى سبخة تمنطيط أو واحة "أولاد يحيى" التي صُنفت عام 2002 من بين أهم المناطق الرطبة عالمياً بحسب اتفاقية "رامسار" (معاهدة دولية للحفاظ والاستخدام المُستدام للمناطق الرطبة من أجل وقف الزيادة التدريجية لفقدان الأراضي الرطبة)، وتُقدّر مساحتها الإجمالية بحوالي 12 ألف هكتار.
وخلقت مياه السبخة تنوعاً بيولوجياً، إذ تُعتبر نقطة التقاء الطيور المهاجرة، وشبهها الباحث في التراث الجزائري الدكتور الفاطمي محمد، في كتابه الصادر حديثاً بعنوان "الفقارة نبع وروح"، بـ"الأعجوبة المخفية تحت الأرض كينبوع حياة يسقي حقول الوحات فيجعلها جناناً خضراء، عمل بالمختصر كمفعول السحر والخيال، جعل الإنسان بالواحة يعيش أسعد لحظات حياته فاستقر وارتبط وأنتج ومارس الحياة بمعانيها"، لكن بحسب الباحث الجزائري "فقد فقدت الفقارة جدوى وجودها كنبع يسقي ألواحاً كما كانت في الماضي".
ونظراً إلى الأهمية البالغة لهذا النظام في حياة سكان المنطقة من الناحية المعيشية والاقتصادية وحتى البيئية، يبذل سكان المدينة ما في وسعهم للحفاظ على هذا المصدر الحيوي للماء.
أسس مباركي عمر مع مجموعة من أصدقائه الشباب جمعية خاصة بحماية الفقارات، على غرار فقارة "قصر عريان الراس" في بلدة "تسابيت" في أدرار، وفقارة "عثمان بن عيسى" في قصر العيادة في البلدة نفسها أيضاً، وفقارة "شمان" في قصر تاسفاوت في فنوغيل وغيرها.
واللافت للانتباه أن معظم الأسماء هي بالزناتية (الأمازيغية)، وهذا لأن أول من حفر "الفقارة" بحسب مباركي عمر هم قبائل "زناتة"، وتسميتها بالزناتية "إيفلي"، ومن بين أقدم الفقارات في المنطقة فقارة "هنو" في تمنطيط.
مخاوف من الجفاف
وعن الهدف من هذه المبادرات، يرد مباركي عمر بتحسر: "للأسف تعاني الفقارة اليوم ضعف قوة تدفق مياهها بسبب مخاطر تهدد وجودها، وأهم هذه المخاطر الحفر العشوائي للآبار الارتوازية بمحاذاتها وعدم وجود قوانين لحمايتها، فمن بين 1890 فقارة أُحصيت إلى غاية 2023، هناك فقط 330 فقارة نشطة فيما تُصنف 304 أخرى في خانة المتدهورة والباقي 1265 ناضبة، أي أنها أصبحت خارج الخدمة ومعظمها أصبحت عرضة لزحف الرمال والتصحر".
وهذه الإحصائيات تخص فقط محافظة أدرار لأن الفقارة موجودة أيضاً في محافظات بني عباس وتيميمون وعين صالح.
ووفقاً للوكالة الوطنية للتسيير المدمج للموارد المائية، ومسح محلي أجري عام 2016، تبين أنه من بين 2000 فقارة في واحات "توات" و"قورارة" و"تيدكلت" لا تزال 672 منها وظيفية، وتستمر هذه "الفقارات الحية" في النشاط بمتوسط معدل تدفق يُقدر بـ1.8 م3/ثانية.
وتزداد المخاوف بين السكان من أن تجف هذه المنابع وتختفي معها أساليب وطرق أُنشئت على مدى قرون من الزمن، نذكر من بينها على سبيل المثال "كيال" الماء الذي يساهم مساهمة ملحوظة في ترشيد استغلال مياه "الفقارة".
وحدة قياس الأنصبة من مياه الفقارة هي "الحَبَّة"، وهي حسابياً: كمية الماء المتدفق من خلال ثقب بحجم معين لمدة 24 ساعة، مع العلم أنّ أبعاد تلك الحفر تتراوح بين 09 و27 ملم، وتوكل مهمة ضبط المقادير المعقَّدة في تفرّعات "المشتة" إلى الخبير بذلك وهو "الكيّال". ويتم إنشاء سجل لكل فقارة لتحديد أسماء المستفيدين من مياهها ومقادير استفادتهم يسمى "الزمام".
تثمينها كموروث مائي وثقافي
ولحماية هذا الموروث يطمح عمر وأصدقاؤه إلى "تصنيف هذا الموروث كتراث عالمي ووطني وإقرار نص قانوني يعترف بوجوده ويحميه"، ولهذا قامت الجمعية الولائية للترميم والمحافظة على "الفقارة" التي يترأسها عمر بمراسلة السلطات العليا من أجل إدراج هذا النظام في مقترح تعديل القانون 04/98 المتعلق بالتراث وكذلك القانون 12/05 المتضمن قانون المياه.
ويجسد نظام "الفقارة" مبدأ التعاون والتكافل الاجتماعي بين الشركاء، ويقول رئيس قسم العلوم الإنسانية في جامعة أدرار الدكتور أحمد بوسعيد، في مقالة مطولة عنوانها "الفقارة قوام الحياة في الواحات"، إن "عملية التنقية أو إصلاح ما تهدم من الآبار يكون بفضل التويزة، ذلك العمل الجماعي التلقائي الذي أصبح في عُرف أهل توات واجباً مقدساً لا مناص من أدائه، بل أضحى رمزاً للانتقال نحو مجتمع الفقارة المنظم البديل للمجتمع القبلي المتشرذم".