فتح اتفاق ليبي برعاية أممية يضع حد للنزاع على رئاسة المصرف المركزي نافذة أمل بقدرة هذا البلد على التوصل إلى توافقات سياسية أوسع، تُمهد لإنجاز الاستحقاقات السياسية المعطلة منذ نهاية عام 2011.
ووقع ممثلا مجلسي النواب عبد الهادي الصغير والأعلى للدولة عبد الجليل الشاوش، الخميس، في مقر بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، غرب العاصمة طرابلس، بحضور القائمة بأعمال الموفد الأممي ستيفاني خوري، وعضو المجلس الرئاسي موسى الكوني، اتفاقاً يقضي بتعيين المصرفي ناجي محمد عيسى محافظاً لمصرف ليبيا المركزي، ومرعي مفتاح البرعصي نائباً له، على أن يُصدق المجلسان على قرار التعيين في غضون أسبوع واحد. ويمنح الاتفاق المحافظ الجديد الحق في ترشيح أعضاء مجلس الإدارة بالتشاور مع السلطة التشريعية في مدة أقصاها أسبوعان من تاريخ تسلم مهماته، فيما أوكل إلى بعثة الأمم المتحدة العمل مع جميع الأطراف المعنيين على إلغاء القرارات والإجراءات كافة التي تتعارض مع تنفيذ هذا الاتفاق الذي يعد نافذاً بعد التوقيع عليه.
لكن ثمة تحديات عدة تواجه تنفيذ الاتفاق، وسيلقى على عاتق الإدارة الجديدة للمركزي الليبي معالجة تداعيات الصراع على رئاسة المصرف على الاقتصاد الليبي، وفي القلب منها سقوط سعر صرف الدينار (العملة المحلية) أمام العملات الأجنبية، وتصاعد معدلات التضخم، فحسابات المكسب والخسارة بعد هدوء هذا الصراع، تشير إلى أن الخاسر الأكبر هو المحافظ السابق الصديق الكبير الذي فقد مقعداً شغله لمدة أكثر من عقد، فيما معسكرا الشرق والغرب خرجا بمكاسب، فرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة انتصر في معركته لإطاحة خصمه الصديق الكبير رغم نفوذه المحلي والدولي، وأرسل رسائل إلى تركيبة معسكره مفادها أن من يخرج عن الإطار ويتقرب من معسكر الشرق سيلحق بمصير المحافظ السابق، فيما معسكر الشرق هو الآخر تمكن من عرقلة إتمام سيطرة الدبيبة على المصرف المركزي والتحكم في الثروة، مستخدماً تأثير ورقة إغلاق حقول النفط الرئيسية على المستوى الدولي.
وفي ردود الفعل، سارع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح إلى الدعوة إلى انعقاد جلسة جديدة لمجلسه، الاثنين المقبل، ستُناقش على ما يظهر تفاصيل هذا الاتفاق، الذي رحب به رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، خلال لقائه نائب مساعد وزير الخزانة الأميركية لشؤون أفريقيا والشرق الأوسط إريك ماير، على هامش زيارته نيويورك، داعياً إلى استكمال تنفيذ تفاصيله وتشكيل مجلس إدارة جديد للمصرف المركزي.
وإذ اعتبرت خوري، خلال حفل التوقيع على الاتفاق، أنه "يركز على الإجراءات التي تضمن الحكم الرشيد واستقلالية المصرف المركزي"، كشفت عن تلقيها وعوداً من الجهات الرسمية في المنطقة الشرقية بفتح الحقول والموانئ النفطية في أقرب وقت، داعية جميع الأطراف إلى حماية الموارد كافة وجعلها بمنأى عن النزاعات السياسية.
وشددت خوري على الحاجة الملحة لإنهاء إغلاق الحقول والموانئ النفطية وتعطيل الإنتاج والتصدير. وقالت: "تابعنا خلال الأسابيع الماضية كيف هدد النزاع على مصرف ليبيا المركزي الوضع الاقتصادي، والوضع الأمني الهش، والوضع المعيشي لكل الليبيين"، لافتة إلى أن "مخرجات اليوم إيجابية وواعدة، إذ تسلط الضوء على قدرة الأطراف الليبية على تجاوز التحديات عندما تكون الروح الوطنية سائدة، وأن تضع مصالح الشعب الليبي كأولوية فوق كل شيء".
أما عضو المجلس الرئاسي موسى الكوني، فأكد أن "الحفاظ على وحدة المصرف وممارسته مهماته بانسيابية ومهنية يساهمان في استقرار الوضع الاقتصادي للبلاد". ورأى أن الاتفاق "يعالج حالة الانسداد السياسي والتوافق بين المجلسين وفق الاتفاق السياسي للمضي قدماً نحو الانتخابات".
الباحث في الشؤون السياسية والاستراتيجية محمد أمطيريد أوضح أن "هناك تحديات عدة تواجه تنفيذ هذا الاتفاق، تبدأ من انعقاد مجلس النواب بنصاب مكتمل للتصويت على تمريره، وكذلك قبول الطرف الحاكم في العاصمة طرابلس بتنفيذه، لكن أعتقد أن الأمم المتحدة لن تقبل بأي عراقيل"، مشيراً إلى أن المحافظ الجديد ناجي عيسى "كان مديراً لإدارة النقد الأجنبي في المصرف المركزي، وهو الشخص الوحيد الذي كان يتعامل بالنقد الأجنبي مع المصارف الخارجية، ويحظى بثقة دولية، وأعتقد أن المجتمع الدولي هو من دفع إلى توليه المنصب".
وأضاف أمطيريد لـ"النهار العربي": "المحافظ الجديد ونائبه سيكون عليهما مواجهة تداعيات الصراع على المصرف المركزي ومعالجتها، خصوصاً مسألة توفير اعتمادات العملات الأجنبية، ما سيساهم في خفض سعر صرف العملات الأجنبية أمام الدينار (في السوق الموازية)، وكذلك معضلة تجاوز الدين العام المقدر بنحو 160 مليار دينار، لكن السؤال سيظل مطروحاً حول ما إن كان سيُسمح له التدخل بسياسات معالجة الأزمة الاقتصادية أم يكون هناك تدخلات من أطراف محلية لعرقلة تحركاته؟".
وإذ رأى أمطيريد أن ليبيا "شهدت اليوم تغيير أول منصب سيادي بعد عقد من تولي الصديق الكبير منصبه، وهو إنجاز، لكنه لا يعني إمكان توافق النواب والأعلى للدولة على ترتيبات سياسية جديدة لتوحيد المؤسسات الليبية"، كما عبر عن تشاؤمه في أن يمهد التوافق الأخير إلى اتفاق سياسي أوسع يمهد لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية "بسبب عدم الثقة في التركيبة الحاكمة التي تعمل لمصالحها وللبقاء على مقاعدها. كما أن حل معضلة توحيد الحكومة غير وارد، خصوصاً أن ستيفاني خوري لم تقدم مبادرة واضحة وتحركت فقط لإنهاء أزمة المصرف المركزي".
ورأى أن "الفائز الأكبر بعد أزمة المركزي هو الدبيبة الذي استطاع إحكام السيطرة على العاصمة طرابلس، فتدخل ولو تدخلاً غير مباشر في انتخابات المجلس الأعلى للدولة، ما خلق نزاعاً على رئاسته (بين خصمه خالد المشري وحليفه محمد تكالة)، قبل أن يتدخل في خطوة غير مسبوقة في المصرف المركزي وتمكن من إطاحة الصديق الكبير، رغم تحالف الأخير مع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، وهو ما يوجه رسالة بأن أي مسؤول يعمل في العاصمة الليبية، وينتهج سياسات تخالف الدبيبة، كأن يذهب إلى التوافق مع سلطة الشرق الليبي، سيتم إقصاؤه. من الواضح أن الرجل يحظى بدعم دولي. وبالتالي فإن أي ترتيبات انتقالية جديدة سيكون الدبيبة طرفاً فيها والحديث عن تشكيل حكومة موحدة غير واقعي لأن الرجل لن يسمح به".
لكن أمطيريد لفت إلى "مؤشر جديد جاء على خلفية زيارة وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة روز ماري دي كارلو، حيث التقت منظمات مجتمع مدني وأحزاباً سياسية في الشرق والغرب والجنوب، وبحثت عن توافقات جديدة يمكن أن يخرج منها تشكيل لجنة حوار سياسي بعيداً من مجلسي النواب والأعلى للدولة"، معتبراً أن "هذا التغيير يؤشر إلى أن الحوار المقبل لحلحلة الانسداد السياسي سيكون بعيداً من المجلسين، ورسالة بعدم قبول المجتمع الدولي استمرار عرقلة المجلسين والمضي قدماً في إنجاز الانتخابات".