"التاريخ لا يكرّر نفسه، لكنّه يكرّر القافية نفسها". تستحضر زيارة الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين إلى كوريا الشماليّة هذا القول المنسوب إلى الكاتب الأميركيّ مارك توين. أجرى بوتين زيارته الأولى إلى بيونغ يانغ سنة 2000، بعد أشهر على وصوله إلى سدّة الرئاسة، وبعد أقلّ من عقد على انهيار الاتّحاد السوفياتيّ، أو "أعظم كارثة جيوسياسيّة في القرن"، بحسب تعبير الرئيس الروسيّ. بينما حصلت الزيارة الثانية وسط محاولة بوتين تصحيح تلك "الكارثة" وإعادة إحياء شكل مصغّر من الاتّحاد السوفياتيّ بحسب البعض.
على الضفّة الأخرى من نهر تومان الذي يفصل جزءٌ منه بين البلدين، لا تغيب المفارقات التاريخيّة تماماً. سنة 2000، كان قد مضى عامان على نهاية المجاعة القاسية في كوريا الشماليّة والتي قتلت بين مئتي ألف وأكثر من 3 ملايين شخص بحسب تقديرات مختلفة. اليوم، لا يواجه الكوريّون الشماليّون مجاعة فتّاكة كالتي ضربتهم في التسعينات، لكنّهم وقفوا حتى الأمس القريب على حافة انعدام أمن غذائيّ هو الأسوأ منذ ذلك الوقت، بسبب "كورونا". في القمّة الأخيرة، ردّ بوتين وكيم على مصاعب التّاريخ... والجغرافيا.
شكوك متبادلة
بصفتهما جارتين للصين، لم تستفد روسيا وكوريا الشماليّة كثيراً من إمكانات بكين المتعاظمة. يتحدّث الرئيس الصينيّ شي جينبينغ أمام بوتين عن جعل النظام العالميّ أكثر عدالة، أو بحسب جملته الشهيرة في آذار (مارس) 2023، عن "مجيء تغييرات لم يحصل مثلها طوال 100 عام". لا يجد بوتين ترجمة لهذا الكلام فوق الميدان الأهمّ بالنسبة إليه: أوكرانيا. حتى مع الأخذ بالاعتبار عدم رغبة الصين بمواجهة عقوبات أميركيّة قاسية إذا دعمت روسيا بالسلاح، لا يبدو أنّ حجم العلاقات التجاريّة يدلّ إلى ما يميّز الروابط الصينيّة-الروسيّة عن غيرها من العلاقات.
نظرة كوريا الشماليّة إلى الصين قد لا تخلو من عتب مشابه. صحيحٌ أنّه لولا الجار الصينيّ لما أمكن لبيونغ يانغ أن تصمد طويلاً. لكن في نهاية المطاف، برزت حسابات في بكين تدعو إلى وضع حدود لحجم الدعم المقدّم إلى بيونغ يانغ. لهذا السبب، شاركت الصين الأميركيّين في فرض عقوبات على كوريا الشماليّة. وعلى أيّ حال، لدى الصين شكوكها التاريخيّة الخاصّة بالنوايا الروسيّة والكوريّة الشماليّة، وهي تبدأ بالحرب الكوريّة سنة 1950 مروراً بالاشتباكات الحدوديّة سنة 1969 وصولاً إلى عدم إبقاء كيم الصينيّين مطّلعين على خطواته الانفتاحيّة تجاه الرئيس السابق دونالد ترامب.
في هذا الإطار، تتعزّز سريعاً العلاقات الثنائيّة بين بوتين وكيم. وقد لا يتوقّف الأمر على التنسيق العسكريّ والفنّيّ الذي شهده العام الماضي بين الطرفين. أغلب الظنّ أنّه لو أرادت موسكو وبيونغ يانغ الاستمرار على المنوال نفسه من الدعم المتبادل شبه الهادئ، لما برزت حاجة إلى الإعلان عن "اتّفاقيّة شراكة استراتيجيّة" تنصّ على "تقديم المساعدة المتبادلة في حالة العدوان على أحد البلدين". تذكّر الاتّفاقيّة، في الشكل على الأقلّ، بمعاهدة المساعدة الدفاعيّة المتبادلة التي وقّعتها موسكو وبيونغ يانغ سنة 1961.
مشاكل الصين
قد لا يروق بكين أن تصبح موسكو الحليف الأوّل لبيونغ يانغ بعدما لعبت بكين هذا الدور طوال عقود. لا شكّ في أنّ حلفاً مع روسيا سيمنح بيونغ يانغ هامش مناورة أكبر. سيتمتّع كيم برافعة تجاه واشنطن لكن أيضاً تجاه بكين. قد تُترجم هذه الرافعة بمزيد من غياب الاستقرار في شرق آسيا وفي توقيت حسّاس بالنسبة إلى الصين. فهي تحاول تعزيز العلاقات مع اليابان وكوريا الجنوبيّة بالإضافة إلى أستراليا. عدم القدرة على التنبّؤ بسلوك كيم قد يجعل هذا التقارب أصعب. وفي خطوة نادرة، انتقدت بيونغ يانغ بشكل غير مباشر تناول بكين ملفّها النوويّ مع سيول وطوكيو الشهر الماضي. هذا إلى جانب أنّ عدم الاستقرار في كوريا الشماليّة قد يدفع أميركا إلى زيادة أصولها النوويّة في المنطقة.
وقد تصطدم بكين بمطبّات أخرى في ما يخصّ العلاقة مع موسكو. إذا كانت كوريا الشماليّة قادرة على تعزيز القوّة العسكريّة الروسيّة في أوكرانيا فهذا يعني احتمال أن تخسر الصين جزءاً من نفوذها مع موسكو في حال أرادت لعب دور بنّاء لإنهاء الحرب في أوكرانيا مقابل ابتعاد الأوروبّيّين نسبيّاً عن واشنطن. على المدى البعيد، ستظلّ الصين محتفظة بالمقدار الأكبر من النفوذ في روسيا، لكن ضمن المستقبل المنظور، الصورة أكثر ضبابيّة.
حتى على النطاق الأضيق، ثمّة ما يبرّر خوفاً صينيّاً محتملاً. تنقل صحيفة "كوريا هيرالد" عن أستاذ الدراسات الصينيّة في جامعة هانكوك للدراسات الخارجيّة كانغ جون يونغ التساؤل التالي: "ماذا لو وضعت كوريا الشماليّة قمراً اصطناعيّاً تجسّسيّاً في المدار؟ سيدور حول الأرض ويكون قادراً لا على مراقبة كوريا الجنوبيّة وحسب لكن أيضاً الصين".
هذا ما "ترغب" به
ليس كلّ المشهد قاتماً بالنسبة إلى بكين. فهي تستفيد من قياس فاعليّة الأسلحة الكوريّة الشماليّة في مواجهة الأسلحة الغربيّة، كما من إفراغ الترسانة الغربيّة وهي تدعم أوكرانيا. وسيخفّف التحالف مع روسيا عبء دعم كوريا الشماليّة عن كاهل الصين. نقلت "لو موند" عن الباحث في مركز كارنيغي-الصين تونغ جاو قوله: "كيفيّة استخدام كوريا الشماليّة هذه القوّة المتصاعدة لا تقع ضمن تحكّم الصين، وهذا يولّد عدم يقين بارزاً للصين. إذاً، بالنسبة إلى الصين، هناك أنباء جيّدة وسيّئة".
بحسب البعض، تراقب الصين ما إذا كان التقارب بين روسيا وكوريا الشماليّة عبارة عن تقاطع مصالح أو تحالف استراتيجيّ. لهذا السبب، تقول مديرة برنامج الصين في "مركز ستيمسون" ومقرّه واشنطن يون صن: "إنّ الصين راغبة بالجلوس جانباً ورؤية كيفيّة تطوّر الأمور".