النهار

اتّفاق بكين-بيشكيك-طشقند... يُضرّ موسكو؟
جورج عيسى
المصدر: "النهار العربي"
في بداية هذا الشهر، تمّ التوقيع في بكين على اتّفاق لبناء خط سكك حديديّة يختصر الطريق إلى أوروبا.
اتّفاق بكين-بيشكيك-طشقند... يُضرّ موسكو؟
الرئيس الصيني شي جينبينغ يصافح نظيره الأوزبيكي شوكت ميرزيوييف خلال قمة الصين - آسيا الوسطى، أيار 2023 (أ ف ب)
A+   A-

بعد انتظار دام عقوداً، وقّعت الصين وقرغيزستان وأوزبكستان في السادس من الشهر الحاليّ اتّفاقاً لبناء خطّ سكك حديديّة يعبر أراضيها بطول 523 كيلومتراً. يمثّل الاتّفاق المعروف اختصاراً بالأحرف الأولى من أسماء هذه الدول "سي كي يو" جزءاً أساسيّاً من "مبادرة الحزام والطريق".

 

ينطلق الخطّ من كاشغر في غرب إقليم شينجيانغ ويمرّ في مَكمَل وجلال آباد جنوب غرب قيرغزستان قبل أن ينتهي في أندجيون غرب أوزبكستان. تحتضن الصين 213 كيلومتراً من هذا الخطّ وقيرغزستان 260، بينما يمرّ 50 كيلومتراً منه في أوزبكستان. من المتوقّع أن تتضاءل المسافة التجاريّة الفاصلة بين الصين وأوروبا بمقدار يفوق 800 كيلومتر مع توفير بين 8 إلى 10 أيّام من عمليّة نقل السلع.

 

ضربة لروسيا؟

بما أنّ أوزبكستان مرتبطة مع تركمانستان وإيران بسكك حديديّة، يمكن للمشروع الجديد أن يقدّم أقصر ممرّ سككيّ بين الصين وأوروبا من دون المرور بروسيا وكازاخستان. لهذا السبب، تحدّث البعض عن أنّ موسكو وأستانا كانتا سعيدتين بتأجيل تنفيذ المشروع.

 

اتّفق الأطراف الثلاثة على تأسيس لجنة عمل وخبراء للنظر في المشروع سنة 1997. لكنّ ما أعاقه هو عدم رغبة روسيا بهذا المشروع، بما أنّها ترى في آسيا الوسطى فناءها الخلفيّ، بحسب وكالة "آسيا نيوز". وتضيف الوكالة أنّه مع تغيّر ميزان قوّة روسيا واعتماد الأخيرة على الصين للتجارة بشكل متزايد بعد فرض العقوبات، منحت موسكو المشروع الضوء الأخضر.

 
 
 

وفي 2021، قال محلّل الأعمال المقيم في بيشكيك عصمت أكينيف: "لا أعتقد أنّه من مصالح روسيا بناء خطّ سكك الحديد هذا. إذا كانت (موسكو) منخرطة، فعلى الأرجح هي منخرطة فقط لعرقلته".

 

لم تكن كلّ العراقيل، بصرف النظر عن قوّتها وتأثيرها، صادرة عن موسكو. ففي قرغيزستان، أطاحت ثورة الأقحوان الرئيس عسكر آكاييف سنة 2005، وأطاحت ثورة أخرى خليفته كرمان بك باكييف سنة 2010، كما أنّ البلاد تردّدت تجاه المشروع لأسباب مختلفة بحسب "معهد الأبحاث الأوراسيّة". لكنّ روسيا ارتابت من الفكرة حتى أنّها اقترحت سنة 2013، خلال انعقاد قمّة منظّمة معاهدة الأمن الجماعيّ، بناء خطوط سكك حديديّة تمرّ في روسيا وقرغيزستان وطاجيكستان وكازاخستان. لكنّ مضيّ الصين قدماً في "مبادرة الحزام والطريق" وتأثّر قرغيزستان سلباً بالأزمة الماليّة في روسيا أقنعاها بالمقترح الصينيّ، بحسب التقرير نفسه. غير أنّ ذلك لم يعنِ أنّ الطريق كان معبّداً خلال العقد الماضي باتّجاه تنفيذ المشروع.

 

منذ سنة 1997، كانت هناك خلافات بين الدول الثلاث حول مسار الممرّ. وبرزت أيضاً تباينات تقنيّة بشأن السّكك نفسها، إلى جانب التعقيدات التي فرضتها طبيعة الممرّ مثل ضرورة بناء 81 جسراً وشقّ 41 نفقاً عبر تضاريس جبليّة متواصلة ترتفع بين 2000 و 3500 متر عن سطح البحر. وحتى تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، سادت المخاوف من ألّا تكون الصين مهتمّة بإنجاز المشروع بسبب احتمال ضربه لتنافسيّة الممرّات في أراضي حليفتيها روسيا وكازاخستان كما كتبت الباحثة في "مركز قزوين للسياسات" ميراي أوزات.

 

إذاً ما الذي "غيّر رأي" الصّين؟

يعتقد البعض أنّ هذا المشروع قد لا يضرّ روسيا في نهاية المطاف. يستغرب الباحث البارز في "أتلانتيك كاونسيل" جو ويبستر "الصدفة الهائلة" في أن يحصل المشروع على الموافقة الصينيّة بالتوازي مع اشتداد العقوبات الأميركيّة على التجارة بين بكين وموسكو. بالنسبة إلى الباحث نفسه، تتطلّع روسيا والصين إلى قرغيزستان "كأداة مفيدة للتجارة مع بعضهما، من دون إغضاب الغرب في العمليّة".

 
 
 

(الرئيس القرغيزيّ صدير جاباروف - أ ب)

 

لكنّ مجرّد التحايل على العقوبات الغربيّة لن يفيد روسيا على المدى الطويل. في حين شرح ويبستر أنّ الشعب الأوزبكيّ لم يَحتَجْ فجأة إلى 15 مرّة كمّيّة المحامل الكرويّة التي كان يشتريها قبل حرب أوكرانيا، (وهذه المحامل مستخدمة في أنظمة عدّة من بينها ما هو عسكريّ)، يبقى الاهتمام الأميركيّ شبه المستجدّ بمنطقة آسيا الوسطى عاملاً يستدعي المراقبة. في أواسط هذا الشهر، زارت ممثّلة الشؤون التجاريّة الأميركيّة كاثرين تاي كازاخستان وأوزبكستان، وهي المرّة الأولى التي يزور فيها مسؤول في هذا المنصب منطقة آسيا الوسطى. كذلك، إذا نجح خطّ السكك الجديد في تصدير بعض السلع المزدوجة الاستخدام إلى موسكو، على افتراض أنّ هذا الأمر هو أحد أغراضه، فقد تكون استفادة موسكو موقّتة ومحصورة في فترة الحرب. بعدها، من المرجّح أن تخسر روسيا رسوم الترانزيت إلى جانب خسارتها النفوذ البعيد المدى في "فنائها الخلفيّ".

 

علاوة على كلّ ذلك، لا يتّفق الجميع مع نظرة ويبستر المرتابة من خطّط السكك باعتباره تحايلاً على العقوبات. الباحث في شؤون آسيا الوسطى دافيد كانكاريني قال إنّ الإلحاح الصينيّ للبدء بالمشروع ازداد بعد فقدان الطرق التقليديّة جاذبيّتها بفعل العقوبات. على أيّ حال، قد يظلّ الخطّ الفاصل بين "الالتفاف حول العقوبات" و"الهروب منها" مبهماً.

 

عن تذليل العقبات

إلى الآن، يبدو أنّ مشروع خطّ السكك الحديديّة هو على "السكّة الصحيحة". لكنّ احتفاليّة التوقيع على المشروع في بكين لا تنفي الشكوك المرتبطة بالقدرة على التنفيذ. قال الرئيس القرغيزيّ صدير جاباروف إنّه من المتوقّع انطلاق أعمال البناء في تشرين الأوّل المقبل. بحسب الأنباء، وافقت الصين على تحمّل ما يزيد بقليل على نصف كلفة تأسيس خطّ السكك الحديديّة، بينما تتحمّل الدولتان النصف الباقي بالتساوي.

 

لكنّ قرغيزستان بحاجة إلى الأموال وهي تواجه قيوداً على الاقتراض بسبب حجم ديونها والموجبات القانونيّة بالامتثال لنسبة معيّنة من القروض الصادرة عن جهة واحدة، بالأخصّ في وقت تدين للصين بنحو 42 في المئة من ديونها. علاوة على ذلك، برز غموض كبير في أرقام كلفة المشروع وتحديداً في أرقام الجانب القرغيزيّ.

 

إذاً، هل حمل الاتّفاق في طيّاته حلّاً لجميع هذه العراقيل؟ قد يكون الانتظار حتى الخريف مناسباً للحصول على بداية جواب.

 

اقرأ في النهار Premium