قبيل انتهاء الولاية الأولى لعهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، أعلن في عام 2011 انسحاب قوات بلاده العسكرية من أفغانستان بحلول نهاية عام 2014، لتُختتم بذلك عملية "الحرية الدائمة"، وهي العملية التي بدأت عام 2001 عقب هجمات 11 أيلول (سبتمبر)، وكان الهدف منها "تدمير معسكرات تدريب الإرهابيين والبنية التحتية داخل أفغانستان، والاستيلاء على قيادات القاعدة ووقف الأعمال الإرهابية في أفغانستان"، بحسب الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن في خطابه أمام الكونغرس في 20 أيلول (سبتمبر) أي بعد أقل من عشرة أيام على الهجمات.
ومنذ إعلان أوباما خطته بدأت القوات الأميركية والحليفة لها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) خفض عديدها بشكل تدريجيّ، لكن في تلك الفترة كان الجيش الأميركي يعمل على تأسيس الجيش الأفغاني وعتاده ليكون جاهزاً لتسلم أمن البلاد. وفي هذا السياق يقول نائب مستشار الأمن القومي الأميركي لشؤون العراق وأفغانستان سابقاً دوغلاس لوت إن الولايات المتحدة أنفقت موارد هائلة تتراوح قيمتها ما بين 80 و90 مليار دولار في بناء قوات الأمن الأفغانية، ويتابع في حديث له ضمن فيلم وثائقي لقناة "الجزيرة": "لقد ارتكبنا أخطاء فادحة... بنينا جيشاً أفغانياً مطابقاً لجيشنا إلى حد كبير وبددنا الكثير من الأموال المستثمرة في قوات الأمن الأفغانية".
والترجمة العملية لهذه الأخطاء، جاءت في آب (أغسطس) من عام 2021، بانسحاب مفاجئ للقوات الأميركية من أفغانستان، ما خلّف وراءه فوضى كبيرة لم يتمكن الجيش الأفغاني من احتوائها، فيما كانت "طالبان" تُحكم سيطرتها على منطقة تلو الأخرى. حدث ذلك رغم المحادثات بين الحركة والأميركيين والتي انتهت عام 2020 باتفاق الدوحة، والتسمية الرسمية له "الاتفاق على إحلال السلام في أفغانستان"، والذي يؤكد انسحاب كل القوات الأميركية و"الناتو"، فيما تعهدت حركة "طالبان" منع "القاعدة" من العمل في المناطق الخاضعة لسيطرتها، وإجراء محادثات بينها وبين الحكومة الأفغانية.
عودة طالبان الى السلطة
مع دخول "طالبان" إلى العاصمة كابول واحكام سيطرتها عليها، باتت هي السلطة، لكنها لم تستطع أن "ترث" عن السلطة السابقة علاقاتها مع القوى الغربية، بل حملت معها العقوبات المختلفة مع عدم اعتراف هذه الدول بشرعية الحركة وسلطتها على أفغانستان. الواقع هذا جعل البلاد تعيش حالة ركود اقتصادي كامل جلب معه المزيد من الفقر للسكان، ويشهد الناتج المحلي انكماشاً حاداً وصلت نسبته إلى قرابة 26 في المئة خلال العامين 2021 و2022 بحسب البنك الدولي. وما ساهم في تفاقم الأزمة وارتفاع نسب البطالة، أن العقوبات شملت إقفال القنوات المصرفية وتجميد أرصدة البنك المركزي.
وفي مؤشر آخر الى حجم التحديات التي تواجهها "طالبان"، أعلنت وزارة الخارجية الأفغانية نهاية الشهر المنصرم، أنها لن تعترف بعد الآن بالوثائق القنصلية الصادرة عن البعثات الدبلوماسية الأفغانية في العديد من الدول الغربية بسبب ما سمته عدم استجابتها للتعاون مع الحكومة الأفغانية.
إلّا أن العامل الإيجابي هو أنه بعد ثلاث سنوات على عودة "طالبان" تعيش البلاد حالة استقرار أمني أفضل من السنوات الماضية. ومقابل العقوبات الغربية والحالة الأمنية المستقرة التي أمنتها "طالبان" وجدت دول شرق آسيا أن الفرصة ملائمة لإقامة علاقات دبلوماسية وتجارية واستثمارية مع أفغانستان، خصوصاً أنها تملك ثروات معدنية وإمكانات زراعية هائلة، لكنها تعاني هجرة الأدمغة ونقص البنى التحتية وانقطاع الخبرات الأجنبية ومصادر التمويل.
وفي مقابلة مع "فرانس برس" قال نائب وزير التجارة والصناعة الأفغاني أحمد زاهد: "نتعاون كثيراً مع روسيا والصين وباكستان وإيران"، مشيراً أيضاً إلى جمهوريات آسيا الوسطى. وكابول أعادت بالفعل، وبالتعاون مع بكين، إطلاق مشروع "ميس عينك"، وهو ثاني أكبر منجم للنحاس في العالم، بعدما كان متوقفا منذ عام 2008. فيما تشهد العلاقات مع موسكو تطوراً كبيراً، حتى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعلن أن "طالبان" شريكة في مكافحة الإرهاب.
أخطر أزمة في العالم
مقابل الأمن وتفعيل العلاقات مع الشركاء الآسيويين، لم تتمكن أفغانستان مع حكم "طالبان" من الإبقاء على بعض "الامتيازات" التي تمتع بها الشعب الأفغاني خلال السنوات الماضية، إذ أعلنت منظمة "هيومن رايتس ووتش" إن حركة "طالبان" خلقت أخطر أزمة تخص حقوق المرأة في العالم منذ توليها السلطة. وأنه في ظل الحكم الحالي، تعد أفغانستان الدولة الوحيدة التي تُمنع فيها الفتيات من التعليم بعد الصف السادس. كما انتهكت الحركة حق المرأة في حرية التنقل، وحظرت عليها العديد من أشكال العمل وخلقت حواجز أمام حصولها على الرعاية الصحية، ومنعتها من ممارسة الرياضة وحتى زيارة الحدائق.
وتقول الباحثة في شؤون أفغانستان في "هيومن رايتس ووتش" فرشتا عباسي، إنه "ينبغي لجميع الحكومات أن تدعم الجهود الرامية إلى محاسبة قيادة طالبان وجميع المسؤولين عن الجرائم الخطيرة في أفغانستان"، وإن الذكرى السنوية الثالثة لاستيلاء "طالبان" على السلطة هي "تذكير قاتم بأزمة حقوق الإنسان في أفغانستان، ولكن يجب أن تكون أيضاً دعوة الى العمل".
وما زاد من تفاقم الأزمة الإنسانية، عودة أكثر من 665 ألف أفغاني إلى بلادهم منذ أيلول (سبتمبر) 2023، بعد أن أجبرتهم باكستان على المغادرة خلال حملة شنتها على المهاجرين واللاجئين الأجانب. وقد أضيفت هذه الأرقام إلى الملايين الذين نزحوا داخليا في أفغانستان ومن هم في عداد العاطلين من العمل.
إلى جانب ذلك، تطالب اسلام أباد، وباستمرار، كابول باتخاذ إجراءات ضد مجموعات مسلحة تشن هجمات ضد القوات الباكستانية المتمركزة على الحدود بين الدولتين، ما يزيد من التوتر الذي وصل الى حدّ اشتباكات مسلحة، رغم العلاقات التاريخية بين الدولتين.
ومن الناحية السياسية، فإن المعارضة غير موجودة أو غير معلنة على الأقل، في ظل غياب انتخابات أو أحزاب سياسية أو صحافة حرة، ويقول الأكاديمي عبيد الله بحير بالحوار، في هذا الصدد: "علينا أن نتحاور مع طالبان باستمرار على أمل أن يفهموا أن للشعب مطالب وعليهم تقديم تنازلات".
علاوة على ذلك فإن أفغانستان فشلت حتى اليوم في الحصول على مقعد في الأمم المتحدة، رغم المطالبة المستمرة، ومشاركة "طالبان" للمرة الاولى في مباحثات الدوحة نهاية حزيران (يونيو) لمناقشة الدعم الاقتصادي ومكافحة المخدرات مع المجتمع الدولي، ما فسره المتحدث باسم الحكومة ذبيح الله مجاهد الذي قاد الوفد الأفغاني إلى قطر، بأنه "خروج كابول من عزلتها".