في الظاهر، تبدو زيارة الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين للصين محاطة بظروف إيجابيّة. في جانب ما، ثمّة ما يدعم هذه النظرة. يمكن قول الكثير عن الاتّجاهات التي بدأت توائم تطلّعات بوتين وأبرزها الانتصارات التكتيكيّة المتسارعة في دونباس وخاركيف. لكن ما عدا ذلك، لا تبدو الأمور الأخرى واعدة جدّاً.
لا تزال التشكيلة الوزاريّة الحديثة التي أخرجت سيرغي شويغو من وزارة الدفاع الروسيّة تثير تكهّنات. الاستنتاج السريع، والذي لا يرتبط فقط بإيضاحات الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف، هو أنّ المؤسّسة العسكريّة الروسيّة بحاجة إلى التكيّف. إذا كان الميدان كافياً ليعرف المراقبون قدرة الجيش الروسيّ على التكيّف فهذا يعني أنّ الأخير نجح في مهمّته إلى حدّ بعيد، أوّلاً عبر إفشال الهجوم الأوكرانيّ المضادّ، وثانياً عبر تقدّمه على الأرض. لكنّ الميدان ليس المعيار الوحيد لقياس قدرات الجيش الروسيّ وزخمه، بخاصّة على المدى البعيد.
نظريّاً، أمكن الرئيس الروسيّ أن ينتظر عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركيّة ليبني على الشيء مقتضاه، بما أنّ احتمالات أن تسير الأمور سيراً أفضل لمصلحة روسيا ستكون أعلى (وإن ليس مؤكّداً). لكنّ اللجوء منذ اليوم إلى التغييرات، بل حتى إلى الاعتقالات بحقّ مسؤولين في وزارة الدفاع، يلمّح كثيراً إلى أنّ الكرملين مستعجل. ثمّة أرقام يمكن أن تبرّر مثل هذه الفرضيّة.
العملاق المترنّح
ذكرت الباحثة البارزة في الجغرافيا الاقتصاديّة ضمن "المجلس الأوروبّيّ للعلاقات الخارجيّة" أغاث دوماريه كيف أبلغ عملاق الطاقة الروسيّ "غازبروم" عن خسارة هائلة بلغت 6.8 مليارات دولار سنة 2023. قبل ذلك بسنة، حوّلت الشركة ما لا يقلّ عن 40 مليار دولار، إمّا إلى الموازنة العامّة أو إلى الصندوق السياديّ. وبسبب العقوبات، طلب الكرملين من "غازبروم" تحويل 500 مليون دولار شهريّاً إلى الدولة حتى 2025.
إحدى المشكلات، بحسب دوماريه، أنّ "غازبروم" قد لا تتمكّن من تمويل الصندوق السياديّ الذي أصبحت السيولة فيه تبلغ نصف (60 مليار دولار) ما كانت عليه قبل الحرب. ومن المشكلات الأخرى، إظهار بيانات الشركة الماليّة ارتفاع مستحقّاتها سنة 2023 بـ50 في المئة، وديونها بنحو الضعف، إلى جانب انخفاض مستحقّاتها من الأسواق وبلوغ خسارتها في الربع الأول من السنة 5 مرّات ما خسرته في الفترة نفسها عن سنة 2023.
إذاً، ثمّة عقبة حقيقيّة في حشد الموارد الماليّة لجهود الحرب. قد لا يظهر ذلك في المدى القريب. لكنّ الأرقام المذكورة تمثّل قطعة إضافيّة في صورة الأحجية الأوسع المحيطة باستبدال شويغو بالتكنوقراطيّ أندريه بيلوسوف. بهذا المعنى، ليست الانتصارات الميدانيّة التكتيكيّة بديلاً من الحسابات الاستراتيجيّة.
هل تستطيع الصّين مواصلة الدّعم؟
يزور بوتين الرئيس الصينيّ شي جينبينغ على أمل الوصول إلى تفاهمات جديدة تحسّن وضع بلاده الماليّ على المديين المتوسّط والبعيد. لكنّ الصين قد لا تملك الإمكانات لتحقيق ذلك. ليس الأمر أنّ الصين لم تؤدِّ دوراً كبيراً في دعم روسيا سياسيّاً واقتصاديّاً. على سبيل المثال، لم يستبعد جونهوا جانغ، أستاذٌ سابق للعلوم السياسيّة في جامعتي جياو تونغ وجيجيانغ الصينيّتين، أن تكون بعض الترفيعات والإقالات من مناصب سياسيّة بارزة في بكين مرتبطة بتهدئة مخاوف سابقة لدى الرئيس الروسيّ.
وزوّدت الصّين روسيا بسلع ذات استخدام مزدوج مثل المسيّرات، إضافة إلى البارود والدروع والمناظير الحراريّة وغيرها، بحسب الأستاذ المساعد في كليّة الشؤون العامّة والدوليّة في جامعة جيلين الصينيّة بيورن ألكسندر ديوبن.
لكن بعد فرض واشنطن عقوبات إضافيّة في كانون الأوّل الماضي، بدأت مؤسّسات ائتمانيّة صينيّة تغلق حسابات عدد من الشركات الروسيّة، كما تشدّدت في الرقابة على المدفوعات، على ما يلاحظه ديوبن نفسه، وقد أشار أيضاً إلى انخفاض الصّادرات الصينيّة إلى روسيا في الشهرين الماضيين بالمقارنة مع الفترة نفسها من 2023.
أكلاف
لا يأتي الاعتماد الروسيّ الكبير على الصين من دون كلفة. في آذار (مارس) الماضي، وخلال حديث إلى وكالة "إنترفاكس" الروسيّة، قال رئيس شركة "أڨتوڨاز" الروسيّة لتصنيع السيّارات ماكسيم سوكولف: إنّ العديد من العلامات التجاريّة الصينيّة التي تقوم بـ"توسّع هجوميّ في السوق الروسيّة، بدأت تحقّق اختراقاً". قد يكون هذا التطوّر مرتبطاً بتوسّع متسارع لسوق السيّارات الصينيّة على مستوى عالميّ، لكنّ بعض الخبراء الغربيّين يقولون إنّ ثمّة مخاوف في موسكو من الاعتماد المفرط على بكين، بالرّغم من نفي الكرملين لذلك.
ربّما تكون موسكو قادرة على تأجيل البحث في ملفّ السيّارات إلى المستقبل. ليس بالإمكان قول الأمر نفسه بالنسبة إلى القضايا الأخرى، وبخاصّة تلك التي ترتبط بالطاقة. قد تشكّل زيارة الصين فرصة للتطرّق إلى زيادة بكين وارداتها من الغاز الروسيّ والتي تمثّل جزءاً صغيراً من السوق الأوروبيّة بحسب دوماريه: 23 مليار متر مكعّب مقابل 180 ملياراً لأوروبا في الفترة التي سبقت الحرب.
شراكة بلا حدود؟
قبل زيارة الصين، قال بوتين في مقابلة مع وكالة "شينخوا" الصينيّة إنّ حجم التجارة بين البلدين ارتفع من 111 مليار دولار سنة 2019 إلى 227.8 ملياراً سنة 2023. قد يبدو هذا الرقم كبيراً، لكنّ حجم التبادل التجاريّ بين الصين وأستراليا، على ما في العلاقات الثنائيّة من توتّرات ومن افتقار إلى الصفات "الاستراتيجيّة"، بلغ سنة 2023 أكثر من 316 مليار دولار. حتى مع الدول الأخرى ذات الحجم الاقتصاديّ الأصغر مثل فيتنام، لا يبدو حجم التبادل التجاريّ بعيداً كثيراً من ذاك الذي يربط موسكو وبكين: 171 مليار دولار سنة 2023.
لا شكّ في أنّ بوتين يتطلّع، وهو يزور الصين، إلى ما هو أفضل من تلك النتائج. بدا شي متفائلاً وهو يستقبل نظيره الروسيّ: "علاقاتنا مع روسيا تجاوزت الصّعوبات ودخلنا مرحلة جديدة في تعميق العلاقات". سيراقب المهتمّون ما إذا كان هذا التفاؤل سينعكس بأرقام مستقبليّة أقوى عن العلاقات التجاريّة بين البلدين.