فيما كانت بكين تستضيف الدورة العاشرة للاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون الصيني العـربي في الذكرى العشرين لتأسيسه، والذي شهد توقيع سلسلة من الاتفاقيات الاستثمارية، رفع صندوق النقد الدولي من توقعاته للنمو في الصين لعام 2024 إلى خمسة في المئة، مشيراً إلى تدابير اتخذتها الصين مؤخراً لتعزيز اقتصادها المتعثر.
وكانت توقعات الصندوق تشير إلى أن النمو لن يتجاوز 4.6 في المئة، خصوصاً أن الاقتصاد الصيني مُني بانتكاسة قوية في السنوات الأخيرة بسبب أزمة ديون طويلة الأمد في سوق العقارات الذي يمثل ربع الناتج المحلي الإجمالي، إلى جانب ضعف الإنفاق الاستهلاكي.
واتخذت السلطات الصينية إجراءات لمواجهة الانكماش وانتشال سوق العقارات من أزمة الديون غير المسبوقة، من خلال تخفيض الحد الأدنى لمعدل الدفعة الأولى لمشتري المنازل، واقترحت أن تشتري الحكومة عقارات تعجز شركات البناء عن بيعها.
ويرى صندوق النقد أن الأولويات الرئيسية يجب أن تشمل إعادة التوازن للاقتصاد باتجاه الاستهلاك من خلال تعزيز شبكة الأمان الاجتماعي وتحرير قطاع الخدمات لتمكينه من تعزيز إمكانات النمو واستحداث فرص العمل.
الصين ذهبت لما هو أبعد من ذلك، إذ إن السلطات حظرت حسابات في منصات التواصل الاجتماعي التي ينطوي مضمونها على رفاهية أو بذخاً باعتباره غير لائق ويسلط الضوء عمداً على أساليب الحياة الباهظة ومظاهر الثروات.
التحديات الاقتصادية هذه، تترافق وتحديات جيوسياسية، منها تلك التي تتعلق بجزيرة تايوان، وأجرت مناورات عسكرية واسعة النطاق استمرت أياماً عدة حاصرت خلالها الجزيرة، وفرضت سفن ومقاتلات صينية طوقاً حول تايوان في اليوم الثاني من المناورات. وقالت بكين صراحة إنها تهدف إلى اختبار قدرتها على الاستيلاء على الجزيرة، وذلك بعد ثلاثة أيام على تولي لاي تشينغ-لي منصب الرئاسة في تايوان وإلقائه خطاباً نددت به الصين باعتباره "اعترافاً بالاستقلال".
وأعطت المناورات اسم "السيف المشترك-2024 آيه" وأنها تمثل "عقاباً شديداً" على التصرفات الانفصالية للقوى الاستقلالية في تايوان و"تحذيراً شديد اللهجة ضد تدخل واستفزازات قوى خارجية". وقال المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية إن المناورات التي أجراها الجيش الأسبوع الماضي قرب تايوان "حققت الأهداف المرجوة"، واصفاً إياها بأنها "إجراء لاحتواء استقلال تايوان العدواني والأنشطة الانفصالية وتحذير من أي تدخل أجنبي".
القوى الخارجية والتدخل الأجنبي وإن لم تسمهما بكين مباشرة، إلّا أن البوصلة كانت واضحة أنها تتجه نحو واشنطن، بالتوازي كان وفد من الكونغرس الأميركي يعرب عن تأييده لتايوان في مواجهة "عدوانية" الصين، وذلك خلال أول زيارة من نوعها للجزيرة منذ تأدية الرئيس لاي تشينغ-تي اليمين الدستورية، وبعد أيام قليلة من تنظيم بكين مناورات عسكرية كبيرة في المنطقة.
وأعلن وفد الكونغرس خلال لقائه الرئيس التايوانيّ عن "دعم لا يتزعزع"، ودعا جميع الديموقراطيات إلى أن "تتوحّد في مواجهة العدوانية والاستبداد ضد بوتين في روسيا وآية الله في إيران أو الرئيس شي جارنا في الصين، إنّه تحالف غير مقدّس يؤدّي إلى تآكل السلام العالمي" على حدّ تعبير رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب النائب الجمهوري مايكل ماكول.
وأكثر ما تخشاه الصين هو الدعم العسكري الأميركي لتايوان. وتاريخياً، تحافظ واشنطن على سياسة "غموض استراتيجي" بشأن احتمال تدخلها عسكرياً إذا تعرّضت تايوان لهجوم من قبل الصين.
غير أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن الذي أشار إلى أنّه لا يؤيد استقلال تايوان، قال إنّه مستعدّ للدفاع عسكرياً عن الجزيرة إذا اقتضى الأمر.
الغموض العسكري الأميركي قابله وضوح اقتصادي، مع إعلان وزراء مالية مجموعة السبع في ختام اجتماعهم في ستريسا في إيطاليا السبت الماضي، عزمهم على اتخاذ إجراءات لمواجهة فائض القدرة الإنتاجية للصين، معربين عن "مخاوفهم" بشأن استخدام الصين لسياسات تضر بالعمال والصناعات والمرونة الاقتصادية لهذه الدول. متهمين الصين بإغراق الأسواق الغربية بمنتجات ذات كلفة متدنية بفضل الدعم الحكومي.
ودعت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين مجموعة السبع إلى تشكيل "جبهة واضحة وموحدة" في مواجهة "القدرة الصناعية الفائضة" لدى الصين التي قالت إنها تحدث "اختلالات في الاقتصاد الكلي"، ودعت الدول المتضررة إلى الرد.
وكانت واشنطن قد أعلنت في منتصف أيار (مايو) زيادة الرسوم الجمركية على المنتجات الصينية إلى ما يعادل 18 مليار دولار، لا سيما على السيارات الكهربائية وبطارياتها وعلى المعادن المهمة التي تصدرها الصين.
كذلك اتهمت المفوضية الأوروبية الصين بإلحاق ضرر بالسوق الأوروبية من خلال إغراقها بمنتجات منخفضة التكلفة، فيما فتحت بروكسل تحقيقاً في نيسان (أبريل) حول وجود ممارسات غير عادلة تستهدف مصنعي توربينات الرياح المدعومة من بكين.
وسط هذا كلّه فإن الطرفين على ضفتي المحيط الهادئ يتهيبان انفلات النزاعات الكبرى عن السيطرة. ولهذا الغرض وفي خطوة نادرة الحصول، أجرى وزيرا دفاع الولايات المتحدة لويد أوستن والصين دونغ جون محادثات مباشرة، ما يعزز الأمل بتعزيز الحوار على المستوى العسكري.
وما يضيف أهمية على هذا اللقاء هو المكان، إذ إنه يُعقد على هامش قمة حوار شانغريلا في سنغافورة. وهذا المنتدى الأمني يجمع قادة الدفاع من حول العالم سنوياً، وبات يُعد في السنوات الأخيرة بمثابة مقياس للعلاقات الأميركية الصينية.
وعلى رأس جدول أعمال "القمة الدفاعية" الأميركية الصينية، كانت تايوان والنزاع في بحر الصين الجنوبي، وشمل البحث كذلك الحرب في أوكرانيا وغزة.
وكان الرئيسان الأميركي جو بايدن والصيني شي جينبينغ قد اتفقا خلال قمتهما في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، على إقامة قناة اتصال بين رئيس قيادة منطقة المحيطين الهندي والهادئ الأميركي والقادة الصينيين المسؤولين عن العمليات العسكرية قرب تايوان واليابان وفي بحر الصين الجنوبي.
ومع تزايد القلق الأميركي من التطور السريع للقدرات العسكرية الصينية ومحاولة احتوائه، ومع ما يقابله من الجهة الأخرى من غضب جراء نشر الولايات المتحدة دورياً سفناً حربية وطائرات مقاتلة في مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، تبقى الدبلوماسية أفضل الخيارات لكلا الطرفين وللعالم بأسره. والرسائل "الناعمة" لا يكف الطرفان عن تبادلها، وكان آخرها إرسال الصين اثنين من صغار الباندا العملاقة إلى الولايات المتحدة، وذلك بعد أشهر من إعادة حديقة الحيوان ثلاثة من الدببة.