قررت الدول العربية كسر أحادية الشراكة والتوجه شرقاً، ونجاح المبادرة الصينية "الحزام والطريق" يتطلب "التوجه غرباً" فالتقى الطرفان في بكين ضمن فعاليات منتدى التعاون الصيني العربي. وحمل العيد العشرون للمنتدى مؤشرات عدة إلى أن الصين دخلت الأسواق العالمية ولم تعد بحاجة إلى "التواضع" أمام قوة الإمبراطورية الأميركية.
والدخول هنا، لا ينحصر في ميدان دون آخر، إنما يشمل النفط والغاز و"دمج أمن الإمدادات مع أمن الأسواق" والتنمية والطاقة المتجددة وقطاعات أخرى متعددة. وقد نوّه الرئيس الصيني شي جينبينغ خلال القمة التي جمعته مع أربعة من القادة العرب: رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان والمصري عبد الفتاح السيسي وملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة والرئيس التونسي قيس سعيّد، بـ"الحسّ العميق بالألفة" مع العالم العربي.
"طريق الحرير"
وترى بكين في الشرق الأوسط حلقة مهمة لإحياء "طريق الحرير" التاريخي، وهي مسألة تمثل ركيزة توسع النفوذ الصيني في العالم على حساب الولايات المتحدة. والشرق الأوسط نقطة صراع وتنافس رئيسية بين هاتين القوتين العالميتين لسببين أساسيين، الموقع الجيواستراتيجي الذي يتوسط ثلاث قارات، وغناه بالموارد الطبيعية، لا سيما النفط، وهو أكثر ما تحتاج إليه الصين لنموها الاقتصادي.
لكن في الوقت نفسه، وإلى جانب التنافس الدولي، تعيش المنطقة صراعات مستمرة بين القوى الإقليمية، وتأتي القضية الفلسطينية على رأس القائمة، وهي عادت لتكون في صلب الحراك السياسي عقب "طوفان الأقصى" وما تبعه من حرب تدميرية إسرائيلية شملت كلّ مناطق قطاع غزة.
وخلال أشهر الحرب هذه، تبنّت الصين موقف اللاعب المحايد أمام الولايات المتحدة، وأكدت دعمها مبدأ حلّ الدولتين من جهة، مع الحفاظ على علاقات وديّة مع إسرائيل من جهة أخرى.
وسيط سلام عالمي
ومن هذا المنطلق، وفي منتدى التعاون قدّمت بكين نفسها على أنها وسيط سلام عالمي، إذ دعا جينبينغ إلى عقد مؤتمر للسلام "واسع النطاق" لحلّ النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين. وقال إن "الشرق الأوسط أرض تتمتع بآفاق واسعة للتنمية لكنّ الحرب تستعر، وعلى الحرب ألّا تدوم إلى ما لا نهاية ولا ينبغي للعدالة أن تغيب إلى الأبد".
وفي هذا السياق، قالت كاميل لونس من "المجلس الأوروبي للعلاقات الدولية" لـ"فرانس برس" إن "بكين ترى في النزاع الجاري فرصة ذهبية لانتقاد ازدواجية المعايير الغربية في الساحة الدولية وللدعوة إلى نظام عالمي بديل".
وهذا ما لمّح إليه شي أمام الوفود العربية، عندما قال إن بلاده "ترغب في العمل مع الدول العربية لحلّ القضايا ذات الصلة ببؤر الصراعات عبر سبل تفضي إلى دعم مبادئ الإنصاف والعدل وتحقيق السلام والاستقرار على المدى الطويل". وتابع في كلمته أن "الصين ترغب في تعزيز علاقاتها بالدول العربية لتكون نموذجاً للسلام والاستقرار العالميين".
الخطاب الصينيّ ليس الأول من نوعه، فقد سبق أن استضافت بكين في نيسان (أبريل) الماضي محادثات بين حركتي "حماس" و"فتح" وإن لم تصل هذه المحادثات لغايتها المرجوة بين الفلسطينيين، إلّا أن الدبلوماسية الصينية سبق أن حققت نجاحاً كبيراً بعد وساطتها العام الماضي في تحقيق اتفاق مصالحة تاريخي بين إيران والسعودية بعد خصومة استمرت لسنوات.
"القوة الناعمة"
ولأن العملاق الآسيوي يدرك جيداً مدى أهمية الملف الفلسطيني وتعقيدات مسار السلام، وأن دخوله هذه الحلبة لن ينجح بالقوة، سلك المسار الذي وُسم به طوال العقود الماضية المتمثل بـ"القوة الناعمة"، فكان أن أعلن الرئيس الصيني تقديم الدعم تخفيفاً من وطأة الأزمة الإنسانية في غزة، فضلاً عن دعم إعادة البناء بعد الحرب، متعهداً تقديم 69 مليون دولار في شكل مساعدات إنسانية للطوارئ. هذا بالإضافة إلى ثلاثة ملايين دولار لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) لدعم مساعدات الطوارئ التي تقدمها لقطاع غزة.
وبانتظار تحقيق الغايات النهائية من هذه السياسة، ضرب شي موعداً لعام 2026 لاستضافة القمة الثانية بين بلاده والدول العربية.
"مبادرات السلام" الصينية لا تقتصر على الشرق الأوسط، بل وصلت إلى أوروبا. وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال استقباله نظيره الصيني الشهر الماضي، قد طرح عليه التوسط لدى حليفه الروسيّ والعمل على "هدنة أولمبية".
توازياً، رفضت روسيا فكرة مؤتمر السلام الذي دعت إليه سويسرا، منتصف شهر حزيران (يونيو) الجاري، لعدم توجيه دعوة إلى المشاركة فيه، ورأت أنه من دون جدوى.
الحرب الأوكرانية
ومع احتدام المعارك في أوكرانيا، ومع إعلان كييف أن الولايات المتحدة وألمانيا سمحتا باستخدام الأسلحة الغربية لضرب الأراضي الروسية، وتحذير موسكو من مغبّة هذه الخطوة، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن الصين قد تنظم مؤتمراً للسلام تشارك فيه روسيا وأوكرانيا.
وبين هذا وذاك، ذكرت وكالة "رويترز" أن الصين لن تشارك بدورها في مؤتمر سويسرا، وأن أسباب الرفض عدم استيفاء شروط المشاركة، بما في ذلك مشاركة كل من روسيا وأوكرانيا.
وعن الخطوة الصينية لعقد مؤتمر رديف، رأى وزير الخارجية الروسي أنها تأتي في إطار جهود بكين المستمرة لحلّ الأزمة الأوكرانية، مشيراً إلى اتفاق بلاده والصين على "ضرورة معالجة الأسباب الجذرية للصراع في المقام الأول وحماية المصالح القانونية لجميع الأطراف، على أن ترتكز الاتفاقات اللاحقة على مبدأ ضمان الأمن بشكل متساوٍ وغير قابل للتجزئة".
وأمل رئيس الدبلوماسية الروسية أن "تعيد التدريبات بين روسيا وروسيا البيضاء على استخدام الأسلحة النووية غير الاستراتيجية خصومنا إلى صوابهم من خلال تذكيرهم بالعواقب الكارثية لمزيد من التصعيد النووي".
وقبل ذلك كله، بمبادرة من بكين، استضافت العاصمة الإثيوبية أديس أبابا عام 2022 مؤتمر السلام والتنمية بين الصين ودول القرن الأفريقي، لمناقشة سبل تحقيق فرص السلام والتعاون بين دول المنطقة.
غير أن المبادرة الصينية الأفريقية لم تصل إلى النتائج المأمولة لناحية تحقيق السلام، لكنها عززت النفوذ من خلال استثمارات ضخمة في أرجاء القارة السمراء.