بعد انتخاب فلاديمير بوتين لولاية رئاسية خامسة، كانت أول زيارة له باتجاه نظيره الصيني شي جينبينغ، وقد وُصفت الزيارة بالتاريخية نظراً لطبيعة الاستقبال وأبعادها الاستراتيجية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً نحو بناء عالم متعدد الأقطاب.
كان ذلك في منتصف أيار (مايو) الماضي، وبعد أقل من شهر، كشفت صحيفة "فاينانشال تايمز"، أن مساعي روسيا لإتمام صفقة كبرى تتعلق بخط لأنابيب الغاز "باور أوف سيبيريا 2" (قوة سيبيريا 2) مع الصين تواجه عقبات بسبب ما تعتبره موسكو مطالبات غير معقولة من بكين في ما يتعلق بالتسعير ومعدلات الإمداد.
وهذا الخط مصمم لنقل 50 مليار متر مكعب سنوياً من الغاز الروسي إلى الصين، وكان بوتين وشي قد اتفقا على تعزيز التجارة السنوية بنسبة 50 في المئة تقريباً في عام 2024، وذلك قبل بدء الحرب في أوكرانيا. وبناءً على ذلك خططت بكين لاستثمار مليار دولار لبناء "باور أوف سيبيريا 2" وهو ثاني خط أنابيب غاز عبر الحدود. مع الإشارة إلى أن معظم خطوط الأنابيب الروسية تذهب باتجاه أوروبا، بينما هناك خط واحد إلى الصين، ومع ذلك ظلت بكين تؤجل المشروع باستمرار.
وحاول المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف التخفيف من أهمية تقرير الـ"فاينانشال تايمز" بقوله إنه "ليس هناك شكّ في أن روسيا والصين ستتوصلان إلى اتفاق بشأن خط الأنابيب"، وأن الجوانب التجارية للمفاوضات لن يُعلن عنها.
بدوره أكد متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية "مواصلة الدفع من أجل تعزيز كل أشكال التعاون المثمر للطرفين"، وأن بلاده تتطلع لتعميق التعاون معها في قطاع النفط والغاز.
لكن هذا الخلاف لفت الانتباه، ومن ينظر إلى تاريخ العلاقات الصينية - الروسية، يجد من الصعوبة بمكان إعطاء وصف واضح لهذه العلاقة الثنائية، إذ إنها بحسب كلّ مرحلة كانت تنتقل بين حدّي التحالف أو الصراع.
"التهديد الأميركي أجبر الطرفين على الحضور في مركب واحد، وإنشاء تحالف استراتيجي" تقول أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية ليلى نقولا. وتشير في حديث لـ"النهار العربي" عن العلاقات الصينية - الروسية إلى أن "الخلافات الاقتصادية تبقى موجودة، لأن كل دولة لها مصالحها. الصين تريد الحصول على الغاز بأسعار منخفضة، بينما روسيا لا تريد أن ترى اقتصادها يتعرض لخسائر كرمى لهذا التحالف الاستراتيجي".
كيمياء بوتين وجينبينغ
اللافت في علاقات الصين وروسيا أنهما ليستا حليفتين بالمعنى التقليدي أو بموجب معاهدة، وليستا ملزمتين بالدفاع إحداهما عن الأخرى. ومع ذلك فإن الشراكة الاستراتيجية الناشئة بينهما أثارت القلق في واشنطن ورأت فيه التهديد "الأوسع نطاقاً" الذي واجهته أوروبا ومنطقة المحيط الهادئ منذ الحرب العالمية الثانية.
وفي هذا الإطار يتحدث مدير تحرير مجلة "فوستوك" الناطقة باللغة الروسية اسكندر كفوري عن وجود "كيمياء بين الزعيمين بوتين وشي، واتفاق تام على إعادة ترسيم العالم ليكون متعدد الأقطاب، بدل الهيمنة الأميركية على كل شيء، حتى أنها تسعى إلى ما تسميه إصلاح مجلس الأمن، أي أن تجعل روسيا خارجه. ما يعني عملياً سيطرة أميركية وغربية كاملة". ويشرح أبعاد التحالف الجديد بين دولتين من كبريات الدول العظمى في العالم، ويقول لـ"النهار العربي" إنهما تريدان تغيير النظام العالمي، و"إقامة آخر أكثر توازناً، وليس تدمير الولايات المتحدة أو انهيار الدولار الأميركي، بل خلق نظام قائم على النديّة بدل الهيمنة والاستئثار".
وإذا عدنا إلى زمن الحرب العالمية الثانية، نجد أن الرجل الأقوى في الاتحاد السوفياتي جوزف ستالين كان لديه من السلطة ما يكفي للطلب من الحزب الشيوعي الصيني وحزب الكومينتانغ، المتصارعين في حرب أهلية، التعاون لمواجهة الإمبراطورية اليابانية.
وبعد انتهاء الحرب الكبرى ورحيل ستالين، سيطر الحزب الشيوعي الصيني على البلاد وطرد قادة الكومينتانغ إلى جزيرة تايوان. لكنّ خلافاً عقائدياً نشب بين الجارين الشيوعيين، فقد شجب نيكيتا خروتشوف في الذكرى العشرين للحزب الشيوعي ستالين والستالينية، وذلك في أول مؤتمر للحزب الشيوعي بعد وفاة ستالين حين انتقد عبادة الشخصية وعواقبها. بالمقابل، رفض ماو تسي تونغ هذه المراجعة الماركسية، واتخذت الصين موقفاً عدائياً تجاه الغرب، وأعلنت بوضوح أنها ضد سياسة الاتحاد السوفياتي للتعايش السلمي بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية. وتطور الخلاف حتى وصل عام 1969 إلى مناوشات عسكرية وتهديد موسكو باستخدام السلاح النووي.
وللمفارقة أن أوائل السبعينيات شهدت تحولاً تاريخياً عندما استقبلت الصين عام 1972 الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، بخطوة وصفت بأنها تصالحية مع "الإمبريالية" وكان عرّابها وزير الخارجية هنري كسينجر.
في كتابها الصادر باللغة الإنكليزية "الاستراتيجيات الدولية والإقليمية في الشرق الأوسط" والتي خصصت فيه نقولا فصلاً كاملاً عن الصين، تقول "إن الصين خلال قرن الذلّ عانت ثلاثة أنواع من الخسائر، فهي فقدت أولاً الأراضي ومن ثم السيطرة على بيئتها الداخلية والخارجية، كما فقدت المكانة والكرامة الدوليتين". وفي حديثها مع "النهار العربي" ترى أن تحالف موسكو – بكين هو "تحالف الضرورة" وأن الولايات المتحدة تطلب من الصين مساعدتها لإضعاف روسيا إلى الحدّ الأقصى، لكن الصين تدرك أنه إذا تحقق ذلك فستواجه المصير نفسه لاحقاً.
وهذه النقطة تلتقي فيها مع كفوري، من أن "الصين تدرك أنه إذا خسرت روسيا الحرب في أوكرانيا فستكون مسألة تايوان هي القضية العالمية التالية، والصين على عكس روسيا لا تستطيع الدخول في حرب وحدها". ويضع كفوري الخلاف على خط الغاز "باور أوف سيبيريا 2" في إطار "الاختلاف الطبيعي بين الدول في مسائل اقتصادية"، ويؤكد أن "الخلاف العقائدي" في خمسينيات القرن الماضي، ليس هناك ما يماثله اليوم، وأن "الاتفاقيات الجديدة هي اقتصادية ومالية، وحجم التبادل التجاري فاق 240 مليار دولار أميركي لعام 2023، وهذه الاتفاقيات جعلت روسيا قادرة على تخطي العقوبات الغربية وبالفعل بدأ الروبل بالتعافي".
حكم المصالح والجغرافيا
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي استمرت العلاقة المتقلبة، ومع صعود الصين الاقتصادي ودخولها الأسواق العالمية كمنافس أول للولايات المتحدة، وعلى أثر الحرب في أوكرانيا واستفحال الخلاف بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وطّد الجاران اللدودان علاقة الثقة والتعاون الاستراتيجي. كما أن الخلافات الحدودية التي لطالما كانت مصدراً رئيسياً للنزاع، تمكن الطرفان في عهد بوتين وشي من حلّها.
وفي هذا السياق، تلفت نقولا إلى أنه لولا التهديد الآتي من واشنطن "كنّا رأينا أن حجم الخلافات الصينية - الروسية أعمق بكثير وكيف أن مصالحهما متضاربة"، غير أن "التهديد الوجودي لكليهما" أجبرهما على إنشاء حلف سيبقى موجوداً على المدى المنظور، لكنه "قد يتغيّر إن كان هناك مقاربة أميركية مختلفة بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة" في تشرين الثاني (نوفمبر).
واقع آخر يُثقل الحلف الصيني - الروسي، وهو أن أكثر من نصف صادرات روسيا إلى الصين مرتبط بالطاقة. لكن بعض الخبراء يتوقعون أن يؤدي استخدام الصين المتزايد للسيارات الكهربائية والطاقة المتجددة إلى تقليل اعتمادها على الموارد الطبيعية الروسية في المستقبل.
إلى جانب التحديات الاقتصادية والسياسية، يبقى حكم الجغرافيا أقوى من أي نظام حكم، وهذا الواقع فرض علاقات متناقضة مع الجارة الثالثة الهند، التي لطالما شكلت فتيل أزمة بين الصين والاتحاد السوفياتي، وهو لا يزال مشتعلاً مع روسيا الاتحادية، إذ إن نيودلهي رفعت من استيرادها للغاز الروسي من 2 في المئة إلى ما يقارب 35 في المئة. بينما علاقتها مع بكين مشوبة بالتوتر المسلح، لا سيما في منطقة كشمير المتنازع عليها.
في العلاقات الدولية عادة "يُجبر التهديد الاستراتيجي الدول على غضّ الطرف عن الخلافات الأخرى"، بحسب ما تقول نقولا.
ويذكّر كفوري بأن للروس منذ القدم قول مأثور: "لا حليف لنا سوى جيشنا وبحريتنا".