إحدى الإشكاليّات التي يواجهها حلف شمال الأطلسيّ (ناتو) في عيد ميلاده الخامس والسبعين هي كيفيّة توزيع المناصب العليا على أعضائه ليكون التمثيل منصفاً. انطبق ذلك خاصّة على تعيين خلف لأمينه العام الحاليّ ينس ستولتنبرغ الذي تنتهي ولايته في 30 أيلول (سبتمبر) 2024.
جرت العادة أن يتمّ اختيار الأمين العام للناتو من بين الدول الأوروبيّة. بما أنّ القارّة العجوز على أبواب انتخابات عامّة في حزيران (يونيو) المقبل، قد تتداخل المفاوضات حول القيادتين الأوروبيّة والأطلسيّة.
ينتشر امتعاض بين دول أوروبا الوسطى والشرقيّة لأنّها تعرّضت للتهميش في المناصب البارزة ضمن الحلف (وحتى ضمن الاتحاد) كما تقول. تصبح مبرّرات الاستياء أكبر عندما تخصّص هذه الدول من الناتج القوميّ أموالاً أكثر للإنفاق الدفاعيّ، بالمقارنة مع تخصيصات معظم دول الحلف الغربيّة. الأسماء المترشّحة رسمياً أو شبه رسميّ إلى المنصب قليلة، لكنّها كانت كافية لإظهار التباين بين المعسكرين.
"هل سنختار شخصاً يحبّ أكلَ الرُّوس؟"
كان اسم رئيس الوزراء الهولنديّ المنتهية ولايته مارك روته أوّل اسم يبرز في السباق. أعلن روته عن ترشّحه في تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي. وحظي بتأييد معظم العواصم الواقعة في غرب الحلف. ثمّ أعلنت رئيسة وزراء إستونيا كايا كالاس عن اهتمامها بالفكرة في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. هي من المسؤولين الأطلسيّين الأكثر تشدّداً تجاه روسيا. أشارت رئيسة الوزراء إلى معاناة والدتها وجدّتها حين رحّلتهما موسكو، ضمن مجموعة كبيرة من سكان إستونيا، إلى سيبيريا في بداية الأربعينات.
أثار اسم كالاس جدلاً واسعاً منذ شهر. في تقرير عن الأسماء المرتقبة إلى المناصب البارزة في الناتو والاتحاد الأوروبيّ، وتحديداً في احتمال أن تخلف كالاس جوزيب بوريل في منسّقيّة الشؤون الخارجيّة للاتّحاد الأوروبيّ، نقلت مجلّة "بوليتيكو" حديثاً صادماً لمسؤول أوروبيّ.
قال المسؤول الذي رفض الكشف عن اسمه: "لا أرى فرنسا وألمانيا توافقان على ذلك، للأسباب نفسها التي لم تجعلها خياراً لمنصب الناتو". وأضاف: "هل سنختار فعلاً شخصاً يحبّ أن يأكل الروس لهذا المنصب؟".
لم يطل الأمر قبل أن تردّ كالاس بصورة على موقع "أكس": وضعت أمامها طبقاً من اللبن والتوت الأزرق والشوفان كاتبة فوق الصورة: "فطوري، الأعزّاء قرّاء بوليتيكو أوروبا". كان ذلك إشارة ضمنيّة إلى أنّها "لا تأكل الروس". ووضعت في التعليق الأوّل الرابط إلى التقرير الأساسيّ.
My breakfast, dear @POLITICOEurope readers ☺️ pic.twitter.com/ryB6omsF6p
— Kaja Kallas (@kajakallas) March 5, 2024
وعاد اسم كالاس إلى الواجهة مجدّداً، بعد انتشار تقرير في الأوّل من نيسان (أبريل)، عن موافقة واشنطن ولندن وبرلين وباريس على اسمها كأمين عام للنّاتو. مع العلم أنّ هذه العواصم دعمت اسم روته مباشرة بعد إعلان ترشيحه. كانت مجلّة "العالم الإستونيّ" ومقرّها لندن خلف هذا الخبر. تبيّن أنّه جزء من كذبة أوّل نيسان. وهذا ما أعلنته كالاس لاحقاً. لكنّ الهدف لم يكن مجرّد كذبة بريئة مسلّية بل جذب الانتباه العام إلى ترشيح كالاس كما قال أحد الناشرين في المجلّة، سيلفر تامبور، لـ"بوليتيكو". وأعرب عن فرحته بالاهتمام الذي ناله الخبر. لكنّ الاهتمام لم ينعكس على أرض الواقع.
استدارة
على الأرجح، كانت احتمالات وصول كالاس إلى هذا المنصب متدنّية منذ إعلان اهتمامها بتولّيه. لعلّ أهمّ سبب في ذلك أنّها من الصقور تجاه روسيا وأنّها "لن تتوقّف عن قرع طبول الحرب" كما هي الخشية في الدول الأطلسيّة الغربيّة.
في آذار (مارس) الماضي، أجرت كالاس زيارة لألمانيا. حين سألتها الصحافة عمّن ستدعم كخلف لستولتنبرغ، بين روته والرئيس الرومانيّ كلاوس يوهانيس الذي أعلن ترشّحه في الشهر نفسه، رفضت كالاس تقديم إجابة صريحة لكنّها شدّدت على معيارين: أن يأتي المسؤول من دولة تلتزم بإنفاق 2 في المئة من الناتج القوميّ على الدفاع، وأن يأتي من أوروبا الشرقيّة. كان ذلك استبعاداً شبه صريح لروته، بما أنّ دولته لم تصل إلى عتبة 2 في المئة (1.7) فضلاً عن أنّها لا تنتمي إلى الشرق. وطالبت أيضاً برفع هذه العتبة إلى 3 في المئة (تنفق بلادها حالياً 3.2 في المئة على الدفاع). وتنفق رومانيا 2.5 في المئة من ناتجها على الدفاع.
My vision for NATO’s future: https://t.co/HGqI9MtSqw
— Klaus Iohannis (@KlausIohannis) March 12, 2024
لكن في 2 نيسان، وفي ما يشبه انعطافة كبيرة، أعلنت كالاس عن دعم روته عبر منصّة "أكس" بعدما أكّد لها مجموعة من المبادئ التي تضمن أمن أوروبا، من بينها زيادة الإنفاق والردع واستقبال أوكرانيا في الناتو وإيجاد توازن جغرافيّ في مناصب الحلف. في اليوم نفسه، أيّدت ليتوانيا أيضاً روته إذ قال رئيسها غيتاناس ناوسيدا إنّ وزير الدفاع الهولنديّ "كان أحد أولئك السياسيّين الذين فهموا التهديد الروسيّ في وقت مبكر جداً" وعدّلوا موقفهم بالشكل المناسب. جاء ذلك خلال زيارة روته لليتوانيا. وأعلن روته أيضاً أنّ هولندا ستنقل موقّتاً منظومة "باتريوت" الدفاعيّة إلى تلك البلاد.
روته ليس أقلّ من "صقر" أيضاً
بالرغم من أنّ هولندا لم تبلغ عتبة 2 في المئة من الإنفاق الدفاعيّ، لكنّ دعمها لأوكرانيا كان جلياً. بحسب أرقام وزارة الدفاع الهولنديّة، قدّمت هولندا 2.63 مليار يورو كمساعدات عسكريّة لكييف وخصّصت مليارين آخرين لسنة 2024. وفي زيارة لأوكرانيا الشهر الماضي، وقّع روته اتّفاقاً أمنياً مع كييف لمدّة عشرة أعوام وقال إنّ بلاده ستساعد في تمويل شراء 800 ألف قذيفة للجيش الأوكرانيّ. وجهّزت الحكومة الهولنديّة 24 مقاتلة من طراز أف-16 (من أصل نحو 42) لتسليمها إلى أوكرانيا. وسلّمت هولندا مساعدات أخرى في إطار التدريب وإعادة البناء والطبّ وغيرها.
Russia’s continuing aggression is not limited to its barbaric war in Ukraine. In Lithuania and other neighbouring countries too, the Russian threat is ever-present and increasing. This month marks 20 years since Lithuania joined the EU and NATO, major milestones in the country’s… pic.twitter.com/rfXOTkFI4D
— Mark Rutte (@MinPres) April 2, 2024
وكتب الباحث في "أتلانتيك كاونسيل" الهولنديّ تيمو كوستر أنّ هولندا "تقود" الطريق في المساعدات إلى أوكرانيا وتمارس دوراً أكبر من ثقلها السياسيّ والديموغرافيّ. وما يفسّر اندفاعة هولندا لدعم أوكرانيا بحسب رأيه أنّ الدفاع عن النظام الدوليّ المبنيّ على القواعد منصوص عنه في دستورها. وهي تعرّضت في السابق لاعتداءات روسيّة، كما حدث حين فقدت نحو 200 هولندي بسبب إسقاط انفصاليّين موالين لروسيا رحلة "أم أتش-17" الماليزيّة فوق أوكرانيا سنة 2014. وتعرّض موقع منظمة حظر الأسلحة الكيميائيّة في لاهاي سنة 2018 لقرصنة الاستخبارات العسكريّة الخارجيّة الروسيّة.
ربّما تستفيد دول أوروبا الشرقيّة من وصول روته إلى منصب الأمانة العامّة للناتو. من جهة، قد لا يكون هناك فائدة من معاندة خيار واشنطن الأوّل لهذا المنصب. من جهة ثانية، لن يكون لدى الغربيّين انحياز تلقائيّ لتجاهل تحذيراته، كما ستكون الحال تجاه تحذيرات الأوروبيّين الشرقيّين باعتبارها صادرة عن "صقور" و"متطرّفين" تجاه روسيا. من ناحية ثالثة، يمكن أن تستفيد هذه المجموعة من التنازل الافتراضيّ الذي قدّمته للحصول على مناصب أخرى في الحلف أو في الاتحاد الأوروبي أو حتى للحصول على صوت أعلى في السياسة الخارجيّة تجاه روسيا. وبما أنّ روته كان من السياسيّين الأطول خدمة لبلادهم في أوروبا (13 عاماً)، يبدو أنّ هنالك إدراكاً لخبرته في التعامل مع الرئيس الأميركيّ السابق دونالد ترامب في حال عودته إلى البيت الأبيض.
هل يرفع المتردّدون اعتراضهم؟
تريد تركيا من الأمين العام المقبل أن يصغي أيضاً إلى الصوت الأطلسيّ غير المنتمي للاتّحاد الأوروبيّ، أي أن يصغي إلى "حاجاتها وتوقّعاتها"، بحسب ما قاله الرئيس التركيّ رجب طيب أردوغان في حديث هاتفيّ مع روته يوم الأحد. وهناك رومانيا الدولة التي يترشّح منها يوهانس، وسلوفاكيا في ظلّ حكم روبرتو فيكو، لكن المشغولة حالياً بالانتخابات الرئاسيّة. الدولة الأكثر صراحة في الاعتراض على روته هي المجر بقيادة رئيس الوزراء المقرّب من روسيا فيكتور أوربان. وكانت العلاقات الثنائيّة متوتّرة بين الرجلين بسبب اتّهامات روته لأوربان بانتهاك حكم القانون في بلاده فردّ الأخير بأنّ هولندا "تريد تركيع" المجر. لكن من المستبعد أن تكون بودابست قادرة على الذهاب بعيداً في عرقلة تسمية روته إذا رفعت الأطراف الأخرى اعتراضاتها.
أشارت مجلّة "فايننشال تايمز" في تقريرها الأربعاء إلى أنّ مسؤولين في الناتو كانوا مقتنعين بأنّه يمكن توقّع حسم تعيين روته قبل القمّة المقبلة التي تستضيفها واشنطن في تموز (يوليو). ونقل موقع "يوراكتيف" الأوروبّيّ عن دبلوماسيّين أطلسيّين داعمين لروته اعتقادهم بأنّه يمكن إقناع أنقرة وبودابست بقبول روته خلال الأسابيع المقبلة.