النهار

كم مكسباً حقّق ماكرون باقتراح إرسال قوّات إلى أوكرانيا؟
جورج عيسى
المصدر: "النهار العربي"
من الشخصيّ إلى الاستراتيجيّ... يبدو ماكرون في وضع أفضل
كم مكسباً حقّق ماكرون باقتراح إرسال قوّات إلى أوكرانيا؟
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوقّع مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على معاهدة أمنيّة ثنائيّة، شباط 2024 (أ ف ب)
A+   A-

"أقدّر مبادرة الرئيس ماكرون لأنّها تتعلّق بجعل بوتين يخشانا، لا بـ(جعلنا) نخشى بوتين".

 

كان هذا ما قاله وزير الخارجيّة البولنديّ رادوسلاف سيكورسكي منذ نحو شهر تعليقاً على اقتراح الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون "عدم استبعاد" إرسال قوّات برّيّة إلى أوكرانيا. "الانعطافة" الفرنسيّة شبه المفاجئة حيال السياسة الواجب اتّباعها تجاه روسيا قوبلت بداية بتشكيك غربيّ واسع النطاق قبل أن تبدأ باكتساب زخم تدريجيّ بينهم.

 

على سبيل المثال، كانت بولندا قد أبعدت نفسها عن اقتراح ماكرون في الساعات التي تلت قمّة باريس لدعم كييف في 26 شباط (فبراير). لاحقاً، أيّد سيكورسكي الفكرة.

 

على المستوى الشخصيّ، شعر الرئيس الفرنسيّ على الأرجح بمرارة من محاولاته الدائمة مدّ اليد إلى الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، قبل وحتى بعد غزو أوكرانيا. ما آلت إليه محاولاته إشراك روسيا في "هندسة أمنيّة أوروبّيّة" والتحذير من "إذلال" موسكو هو مواصلة روسيا التقدّم عسكريّاً على أرض أوروبّيّة. في السياسيّ والشخصيّ، خرج ماكرون من الكرملين خالي الوفاض. لذلك، حان وقت الردّ.

 

لماذا الآن؟

لم يخفِ ماكرون قلقه من الوضع الميدانيّ الأوكرانيّ. "بين ستراسبورغ ولفيف أقلّ من 1500 كيلومتر"، قال الرئيس الفرنسيّ خلال مقابلة إعلاميّة الشهر الماضي. "هل تتخيّلون!... إذاً إنّها (الحرب) ليست خيالاً وليست بعيدة منّا. إذاً كلّ تلك الخيارات ممكنة".

 

تمتلك روسيا الآن المبادرة في أوكرانيا. لا يعني ذلك أنّها تتقدّم سريعاً. فبالرغم من كلّ ما يقال عن نشاط الجيش الروسيّ والضجّة الإعلاميّة التي رافقت سقوط بلدة أفديفكا، لم تسيطر روسيا إلّا على 55 كيلومتراً مربّعاً من الأراضي الأوكرانيّة في آذار. لكنّ المقلق بالنسبة إلى الموقف الغربيّ هو تعثّر المساعدات العسكريّة الأميركيّة إلى أوكرانيا لفترة طويلة ممّا يضعف بشكل تدريجيّ، وربّما متسارع، قدرة الأخيرة على صدّ القوّات الروسيّة. ثمّة أكثر من تقرير يشير إلى أنّ روسيا قد تحقّق اختراقاً أكثر نوعيّة في مرحلة ما من هذا الصيف.

 
French President Emmanuel Macron with his Russian counterpart Vladimir Putin.(AFP)
 
 

قد تحمل هذه التقارير مبالغات. فالجيش الروسيّ تحمّل أكلافاً بشريّة كبيرة لتحقيق هذا التقدّم، ويمكن أن يكون زخمه قد وصل إلى ذروته. وربّما يقرّ مجلس النوّاب الأميركيّ حزمة المساعدات العالقة بعد عطلة الفصح، كما لمّح مؤخّراً إلى ذلك رئيسه مايك جونسون. لكنّ الرئيس الفرنسيّ لا يستطيع أن يراهن على هذه الاحتمالات، ولا مؤيّدوه الأوروبّيّون.

 

ماذا عن الصعيد الاستراتيجيّ؟

بعيداً (ولو قليلاً) من الميدان، أدرك ماكرون أنّ طموحه الشخصيّ بقيادة أوروبا "مستقلّة استراتيجيّاً" تحتاج إلى خلط أوراق. قيل الكثير عن المحرّك الفرنسيّ-الألمانيّ "المختلّ وظيفيّاً". يمكن العودة إلى سياسات فرنسيّة قديمة عن ضرورة إيجاد تعاون أوثق بين باريس وفرصوفيا على مستوى أوروبا كي يكتسب الفرنسيّون ثقلاً قارّيّاً أكبر. خلال فترة استقلالها ما بين الحربين، ساعدت فرنسا بولندا على تكوين جيشها فأعادت التجربة البولنديّة صياغة "التدريب والثقافة" الاستراتيجيّين للجنديّ الفرنسيّ الذي خدم في المهمّة بين سنتي 1919 و1921 والذي سيصبح لاحقاً الرئيس شارل ديغول. في تلك الفترة، ساعد ديغول البولنديّين في حربهم ضدّ البلاشفة والتي انتهت بانتصارهم وبحصول ديغول على أهمّ وسام بولنديّ. كان ديغول يرى أنّ روسيا وألمانيا حليفتان طبيعيّتان بما أنّهما تستطيعان الهيمنة معاً على أوروبا الوسطى وبما أنّ كلتيهما عاجزة عن تحقيق ذلك بمفردهما.

 

أن يعتبر ماكرون نفسه خليفة لديغول في النظرة إلى بولندا ليس أمراً مستبعداً، بخاصّة مع تشكيل بولندا منصّة لنفوذ فرنسيّ أوسع في شرق أوروبا. ويبدو أنّ سياسة ماكرون تؤتي ثمارها. يمكن تعداد الدول التي قبلت مؤخّراً إلى حدّ معيّن فكرته بشأن احتمال إرسال قوّات برّيّة إلى أوكرانيا. إلى جانب بولندا، برزت ليتوانيا وإستونيا وتشيكيا وفنلندا ولاتفيا. والتطوّر الأفضل لفرنسا؟

 

تأييد هولندا نفسها، على لسان قائد قوّاتها العسكريّ أونو إيخلشايم الاقتراح الماكرونيّ، عبر "إبقاء كلّ الخيارات مفتوحة". مع التذكير بأنّ رئيس حكومتها المنتهية ولايته مارك روته يقترب كثيراً من تولّي منصب أمين عام حلف شمال الأطلسيّ (ناتو) خلفاً لينس ستولتنبرغ.

 

وفي السياسة الداخليّة أيضاً

ما كان أقرب إلى فكرة خياليّة أصبح أقرب إلى خطّة سياسيّة قد تتبلور في المستقبل المنظور بسبب، وَحَولَ، ماكرون. في الواقع، لم يدفع الرئيس الفرنسيّ عدداً من الدول الأوروبّيّة إلى تبنّي وجهة نظره وحسب. حتى الخصوم الداخليّون في فرنسا باتوا أكثر تشدّداً تجاه روسيا. يعتقد البعض، وليس من دون أسباب وجيهة، أنّ ماكرون أراد عبر اقتراحه إحراج خصومه، وخصوصاً حزب "التجمّع الوطنيّ" على أبواب الانتخابات الأوروبّيّة. وتُظهر استطلاعات رأي متتابعة أنّ دعم الشعب الفرنسيّ لحقّ كييف بالدفاع عن نفسها أكبر من مؤيّدي فكرة دفعها إلى التفاوض.

 

التقطت مرشّحة "التجمّع الوطنيّ" إلى الرئاسة الفرنسيّة مارين لوبان نوايا ماكرون فعمدت إلى تصعيد لهجتها. في آذار الماضي أيضاً، ألقت لوبان كلمة داعمة لأوكرانيا بنبرة تخلو من أيّ تردّد بالنسبة إلى شخصيّة اتُّهمت كثيراً بأنّها موالية للرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين: "نقدّم للدولة الأوكرانيّة المعتدى عليها احترامنا ودعمنا. في الواقع، أوّلاً وبفعل المقاومة البطوليّة للشعب الأوكرانيّ، وجدت روسيا نفسها في حالة إخفاق". ووجّهت تحيّة للمدن التي تستضيف اللاجئين الأوكرانيّين كما أشادت بالدعم العسكريّ الذي تقدّمه بلادها لأوكرانيا.

 
 
 

 

عن "العزلة"

الجواب على ما إذا كانت مبادرة ماكرون ستتحوّل إلى استراتيجيّة قابلة للحياة معلّق بانتظار التطوّرات المستقبليّة. لكن بالحدّ الأدنى، تبدو احتمالات قيادة فرنسا لأوروبا في حال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أكثر جدّيّة بالمقارنة مع أيّ وقت مضى. يقول ماكرون ضمناً لبوتين إنّ هناك احتمالاً في أن يدفع ثمن تجاهله لمدّ اليد الفرنسيّة في السابق: سيواجه الكرملين أوروبا أكثر تشدّداً تجاه روسيا، مع أو بدون انتصارٍ في أوكرانيا.

 

بعد فترة قصيرة على إعلان مبادرة ماكرون، قال مصدرٌ ألمانيّ لصحيفة "تلغراف" البريطانيّة إنّ فرنسا باتت "معزولة". مع كلّ الدول التي تدعم مبادرة ماكرون بشكل أو بآخر، ربّما حان الوقت كي يعيد هذا المصدر تقييمه الأساسيّ... إن لم يكن قد بدأ بذلك على أيّ حال.

 

اقرأ في النهار Premium