طردت الدول الاوروبية منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا ما يقرب من 500 دبلوماسي روسي، بينهم عملاء عملوا تحت هذا المسمّى رغم صفتهم الأمنية. لكن موسكو لا تتوقف بسهولة في التحرّي عن المعلومات، وعاودت حراكها التجسسي بأساليب أخرى. فكيف يعيد الكرملين توجيه قنواته أو ما يمكن تسميته بإعادة هيكلة وتغيير الأنشطة التجسسية في عدد من العواصم الأوروبية بينها برلين وفيينا وأمستردام وغيرها؟.
هياكل وتقنيات مبهمة
أفادت تقارير أمنية ألمانية أخيراً أنّ روسيا أعادت تموضعها وغيّرت في عمل أجهزة مخابراتها في مجال التجسس منذ بداية الغزو لأوكرانيا، وباتت تعتمد من بين أمور أخرى على التكنولوجيا الحديثة وهياكل وتقنيات الاتصالات والتجسس المختلفة المبهمة وغير المرئية، وتشمل في المقام الأول الإتصالات والاستطلاع الإلكتروني.
وبحسب شبكة "إيه آر دي" الاخبارية، فإنّ هذه الهياكل والمرافق التي تمّ تركيبها بشكل شامل، بعد الإستغاء عن عدد من الهوائيات، سبب مهم لالتزام القيادة الروسية بموقع القنصلية العامة في مدينة بون التابعة لولاية شمال الراين، فستفاليا، كما بـ"عملاء السفر".
وفي السياق، تشير دوائر أمنية في المانيا إلى الدور الخاص الذي قد تلعبه القنصلية في المدينة المذكورة، لا سيما أنّها تحظى باهتمام خاص من موسكو، ومنها أنّ العاصمة الفدرالية السابقة ما زالت تضمّ مكاتب تابعة لوزارة الدفاع الألمانية، كما والعديد من مراكز المنظمات الدولية والتي يثير عملها اهتمام الكرملين، ناهيك عن قرب المدينة من بلدان أوروبية مجاورة مثل فرنسا وهولندا ولوكسمبورغ، كما وستراسبوغ وبلجيكا حيث مقار البرلمان والإتحاد الأوروبي وحلف الناتو، والتي تكتسب أهمية خاصة من قبل الروس بهدف جمع المعلومات.
يأتي ذلك، بعد أن كانت الحكومة الفدرالية الألمانية قد ضغطت في العام 2023 لإغلاق قنصليات روسية في البلاد، إن كان في ميونيخ وفرانكفورت أم ماين ولايبزيغ وهامبورغ، والتي كانت مارست أدواراً وكان لها تأثيرات في مجال التجسس، وهذا ما شكّل حينها ضربة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع طرد عشرات الجواسيس المعتمدين كدبلوماسيين في البلاد، وحيث قرّرت موسكو الإبقاء على السفارة الروسية في برلين والقنصلية في بون، وتحديدها إجمالي التمثيل في ألمانيا بحوالى 350 شخصاً بين دبلوماسيين ومعلمين وموظفين. وقد طردت ألمانيا ما مجموعه 40 منهم في العام 2022، و30 آخرين في العام 2023.
وبحسب تقارير إعلامية، تفترض السلطات أنّه لا يزال هناك أكثر من 150 دبلوماسياً مزيفاً، وهم في الواقع عملاء وينشطون في جمهورية ألمانيا الاتحادية. وفي المقابل، تستفيد روسيا من المعاملة المتساهلة نسبياً من قبل حكومة فيينا، حيث لم يتمّ طرد سوى 8 جواسيس مقارنة بما يقدّر بنحو 100 شخص معتمدين كموظفين دبلوماسيين.
وبناءً على ذلك، تشير التقارير إلى أنّ روسيا تحاول جزئياً، وعلى سبيل المثال، استبدال الموظفين المطرودين من أوروبا بجواسيس كانوا منتشرين سابقاً في سفارات في إفريقيا، لأنّ الإستخبارات البشرية، أي العمل مع مخبرين، تبقى عامل القوة الرئيسي.
وفي الوقت نفسه، تعتمد أيضاً على التعاون مع حكومات دول صديقة مثل المجر وصربيا، حتى أنّ أجهزة الإستخبارات الداخلية الهولندية حذّرت أخيراً من أنّ البعثات الدبلوماسية الروسية مخترقة برجال أعمال.
وتعتبر السلطات الألمانية أنّ العديد من الجواسيس كانوا يتنكرون بصفة دبلوماسيين لأنّ ذلك يحميهم من الملاحقة القضائية، ويستخدمون دورهم التقليدي بتجنيد مصادر للحصول على المعلومات. وتقدّر الاستخبارات الالمانية أنّ ما يصل إلى ثلث الموظفين الدبلوماسيين الروس هم في الواقع عملاء.
وقبل الغزو الروسي لأوكرانيا كانت السلطات الألمانية تتجنّب اتخاذ إجراءات صارمة ضدّ التجسس الروسي، ومن منطلق أنّه لا ينبغي أن تتوتر العلاقات الدبلوماسية مع موسكو.
تضليل إعلامي
وتأتي هذه التطورات غداة صدور تعليقات بينها للقناة الثانية في التلفزيون الألماني"زد دي اف"، أنّه كان هناك تبن لنهج آخر أكثر قوة من قِبل روسيا، وذلك باعتماد بروباغندا وحملات تضليل واسعة النطاق عبر مواقع إخبارية مدعومة من قبلها ضدّ دول مثل بولندا وجمهورية التشيك، حتى أنّه شاعت أخيراً أخبار عن نفوذ سياسي يشمل دفع رشاوى للسياسيين.
وتكلّلت الدعاية المشبوهة عبر البوابة الإخبارية "صوت أوروبا"، وهي متوفرة أيضاً باللغة الألمانية، والتي باتت تعدّ جزءاً من عملية نفوذ روسية، مع نشرها تصريحات لسياسيين أوروبيين يطالبون الاتحاد الأوروبي بالتوقف عن مساعدة أوكرانيا والتشكيك في سلامتها وسيادتها وحرّيتها. ووفق ما ذكرت "شبيغل"، فإنّ بعضهم إن كان في ألمانيا وبلجيكا وفرنسا والمجر وهولندا وبولندا، تقاضوا أموالاً من البوابة الإخبارية المذكورة آنفاً لتغطية بدل تكاليف لحملاتهم للانتخابات الأوروبية المقرّرة في حزيران (يونيو) 2024، وأنّ الأموال سُلمت في براغ أو تمّ تحويلها عبر عملات مشفرة، وفي مقدمتهم سياسيون لحزب البديل من أجل ألمانيا اليمين الشعبوي.
وفرضت جمهورية التشيك أخيراً عقوبات على"صوت أوروبا"، معتبرة أنّ القرار سيسهم في حماية العملية الديموقراطية قبل الانتخابات البرلمانية الأوروبية.
لماذا ألمانيا أولاً؟
وبعدما وصفت عملية التجسس باعتراض المكالمات الهاتفية التي حصلت على هواتف ضباط الجيش الألماني اخيراً، بالفضيحة، وما تشكّله من خطر أمني، واعتبارها جزءاً من حرب معلومات تشنّها روسيا، قال الباحث في المجال الأمني أريش شميدت إينبوم في مقابلة مع موقع "بايرشر 24"، إنّه لأمر مفروغ منه أن تكون ألمانيا هدفاً ذا أولوية مطلقة لأجهزة الإستخبارات الروسية الثلاثة، لاسيما وأنّها دولة جد مؤثرة في صنع القرار السياسي على مستوى الاتحاد الأوروبي، والاقتصادي، ومشدّداً على أنّ أنشطة التجسس الحالية على النطاق نفسه الذي كانت عليه في الحرب الباردة.
وفي ردّ على سؤال حول أهمية ودور ومهام المكتب الاتحادي لحماية الدستور، اعتبر الخبير أنّ عمله يتراوح حالياً بين مكافحة الإرهاب الأجنبي والمحلي، إلى تقديم المشورة في مجال مكافحة التجسس على صناعاتها ومراقبة نشاط حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرّف، فضلاً عن صدّ تجسس دول أخرى مثل الصين وجهات أخرى مثل كوريا الشمالية، والأهم في مجال الدفاع السيبراني وكبح نظام الهجمات الإلكترونية الروسية.