في الأيام الأولى من شهر نيسان (أبريل) الحالي، وبالتزامن مع الاحتفال بالذكرى 75 لتأسيس حلف شمال الأطلسي (ناتو)، كان من المرجح أن يتضح اسم المرشح الفعلي لخلافة الأمين العام الحالي للحلف ينس ستولتنبرغ الذي تنتهي ولايته "الممددة" في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل... لكن يبدو أن خلط الأوراق ما زال سائداً في ظل الصراع القائم بين دول غرب أوروبا وشرقها في الناتو، لا سيما أن الأخيرة تطالب بتعزيز حضورها بعدما تم تجاهلها في المناصب المهمة في الاتحاد الأوروبي. وهذا ما تجلى أخيراً بإعلان الرئيس الروماني كلاوس يوهانس ترشحه للمنصب، في وقت يقال إن رئيس الوزراء الهولندي مارك روته بات أقرب لقيادة الناتو. فماذا عن طبيعية دول شرق أوروبا وأحقيتها بالمنصب، حيث سيتحدد مع الأمين العام الجديد التوجه المستقبلي للناتو، وذلك في القمة المقررة في واشنطن بين 9 و11 تموز (يوليو) المقبل؟
قوى عسكرية ذات وزن ثقيل
يبدو واضحاً أن العدوان الروسي على أوكرانيا جذب الكثير من الاهتمام لدول أوروبا الشرقية داخل الحلف، حيث زادت ميزانياتها ومن عديد جنودها ومعداتها العسكرية زيادة فائقة، وأصبحت دول مثل بولندا ورومانيا الآن من بين القوى العسكرية ذات الوزن الثقيل في الحلف على الجانب الشرقي.
وفي هذا الصدد أيضاً، تفيد قراءات سياسية بأنه - من وجهة نظر تلك الدول - فإن الأمر سيكون بمثابة اعتراف لها بعدما أتقنت التحول في مجالات حساسة مثل الأمن والدفاع، ناهيك عن أن ذلك قد يساعد في فهم أكبر وأفضل لعقلية النخبة في موسكو، وبالتالي تجنب الأخطاء التي ارتكبتها قيادات من غرب أوروبا في التعامل مع روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين. لكن يبقى من المؤكد أنه سيكون لزاماً عليه أيضاً أن يلهم الدول الغربية من أجل تحقيق الإجماع اللازم لاتخاذ القرار بموضوع مركزي واحد، وهو الدفاع الجماعي وردع روسيا العدوانية.
وقال يوهانس عند تقديم ترشيحه، إنه في مواجهة التهديد المستمر من روسيا، يمكن لرومانيا التي انضمت إلى الناتو عام 2004 أن تساهم في رؤية جديدة للتحالف العسكري الدولي، لا سيما أنها تقدم مساهمة قيمة في النقاشات والقرارات، ومن المؤكد أن بعض دول الناتو ستتعاطف مع تعيين أمين عام من أوروبا الشرقية.
13 رجلاً وامرأة؟
من جهة أخرى، وعن مدى واقعية وجود امرأة على رأس منظمة الناتو، اعتبر محللون أن ذلك سيكون صفعة مدوّية على وجه بوتين بعدما تولى 13 رجلاً منصب الأمانة العامة للناتو، وهناك بالفعل نساء قياديات في أوروبا يتمتعن بخبرات سياسية وأمنية واسعة، بينهن رئيسة وزراء إستونيا كايا كالاس الملقبة بـ"سيدة البلطيق الحديدية"، لكنها أعلنت أخيراً دعمها لروته. وهناك أيضاً الرئيسة السلوفاكية زوزانا تشابوتوفا... فيما يرى البعض حلاً وسطاً عبقرياً ومزيجاً بين الشرق والغرب، يتمثل في وزيرة الخارجية الكندية السابقة - والمال حالياً - كريستيا فريلاند التي يتحدر أجدادها من أوكرانيا، وهي التي عملت كصحافية في أوكرانيا وروسيا قبل أن تتحول في عام 2013 إلى السياسة.
وتماشياً مع ما تقدم، برزت تعليقات بأن دول البلطيق تبقى أحد الخيارات، ويفضل أن يكون من إستونيا أو ليتوانيا أو لاتفيا. فيما يشكك آخرون بإمكانية أن يكون الأمين العام للناتو من دول على مرمى بصر من روسيا مناسباً لهذا المنصب في هذه الأوقات الجليدية معها، رغم أن إستونيا مثلاً تستوفي معياراً لم تحققه هولندا بعد، حيث تنفق الأولى ما يقرب من 3% من ناتجها المحلي الإجمالي على الإنفاق الدفاعي للناتو، فيما لم تحقق أمستردام بعد ما نسبته 2% المتفق عليها بين أعضاء الحلف.
ترشح تكتيكي؟
ورغم أن عملية التعيين تتم خلف أبواب مغلقة ووفق قائمة معايير تشتمل على الجنس والجنسية والإنفاق العسكري، فإن وضعية الشخصيتين المرشحتين الرئيسيتين مختلفتان تماماً، فالهولندي روته يعد من أكثر السياسيين الذين تولوا رئاسة الحكومة في أوروبا بعد المجري فيكتور أوربان، وهو مدعوم من الأربعة الكبار واشنطن وبرلين وباريس ولندن، إلا أنه لا يزال بحاجة لدعم دول الجناح الشرقي وتركيا والمجر، بما في ذلك فنلندا والسويد اللتان انضمتا مؤخراً... ويتطلب الانتخاب إجماعاً بين الأعضاء 32 داخل حلف شمال الأطلسي.
أما الرئيس يوهانيس الذي يقود رومانيا منذ 10 سنوات، وسيترك منصبه في الخريف المقبل بعد ولايتين متتاليتين ولا يجوز له الترشح مرة أخرى، فإن ما يجعله في موقع أضعف أن الولايات المتحدة غير مرحبة بوجود شخصية من أوروبا الشرقية في قيادة التحالف العسكري الدولي، ومن منطلق أنه حينها سيبدو كأن الناتو لا يهتم إلا بالتعاطي مع روسيا، فيما هناك تهديدات أخرى بينها على سبيل المثال في شمال أفريقيا.
وفي المقابل، يرى متابعون أن يوهانيس قد يستغل حقيقة التذمر بين مواطني أوروبا الشرقية، وبأن يكون ترشحه تكتيكياً، وعندها سيتعين على باقي الدول استرضاءهم بالمناصب الرفيعة الأخرى ضمن الهيئة القيادية لحلف شمال الأطلسي.
واشنطن والدور الحاسم
وبانتظار ما ستؤول إليه الجهود، فإنه في نهاية المطاف، على الناتو أن يبحث عن أمين عام للسنوات الأربع المقبلة له علاقات جيدة بواشنطن التي تعتبر المساهم الأكبر في الحلف، ليظهر لبوتين رسالة واضحة بعدم السماح لـ"الحرب الباردة الثانية" بأن تكون "أكثر سخونة"، إضافة إلى التفاعل مع تزايد قوة الصين وقدرتها، وصولاً إلى الحروب الهجينة والهجمات السيبرانية والتعرض للبنية التحتية الحيوية.
وبحسب خبراء أمنيين، فإن عودة ترامب المحتملة إلى البيت الأبيض يمكن أن تضعف الناتو وتلحق الضرر به، فقد أبقى خلال ولايته الأولى مقعد السفير الأميركي في الناتو شاغراً أشهراً عدة، دون الحاجة إلى مطالبة الكونغرس له بالانسحاب، لا سيما أن الرئيس في الولايات المتحدة يتمتع بصلاحيات واسعة في اتخاذ القرار، ناهيك عن أساليب أخرى بينها وقف الالتزامات تجاه الحلف، أو حتى إنهاء عمليات الانتشار الثنائية مثل القوات الأميركية في دول البلطيق.