"الحزمة ستطيل الحرب لكنّها لن تغيّر مسارها". ربّما تكون هذه إحدى أكثر العبارات المتداولة في تحليل مفعول حزمة المساعدات الأميركيّة الأخيرة على مصير الحرب بين روسيا وأوكرانيا. لكنّ الحسابات ليست دوماً بهذه البساطة.
عبارتان لنابليون
بشكل بديهيّ، تعني إطالة أمد الحرب، بالحدّ الأدنى، أنّ الفريق الأضعف سيتمتّع بالمزيد من الوقت للقتال، أو لتقويم الأهداف، وعلى الأرجح للأمرين معاً. إذا كان تعريف الاستراتيجيّة، بحسب الإمبراطور الفرنسيّ الأسبق نابليون بونابرت، هو أنّها "فنّ استخدام الوقت والمساحة" فهذا يعني أنّ أحد عنصري المعادلة، أي الوقت، بات متوفّراً بشكل أكبر لأوكرانيا. قبل الحزمة، كان مدير وكالة الاستخبارات المركزيّة وليام بيرنز يتوقّع أن تبدأ كييف بمواجهة الخسائر الجسيمة في نهاية 2024. وقد يكون تحذيره العامل الأهمّ في قبول رئيس مجلس النوّاب مايك جونسون عرض حزمة المساعدات على النوّاب للتصويت، بالرغم من المخاطر على مستقبله السياسيّ. حاليّاً، يمكن افتراض بشيء من الثقة أنّ الكأس المرّة قد تأجّلت بالحدّ الأدنى إلى ما بعد 2024 إن لم يكن لفترة أطول.
I spoke with House Minority Leader @RepJeffries and thanked him for his role in getting the Ukraine aid bill passed in Congress.
— Volodymyr Zelenskyy / Володимир Зеленський (@ZelenskyyUa) April 28, 2024
I appreciate the bipartisan support for Ukraine in Congress, as well as President Biden's leadership. I invited Congressman Jeffries to visit… pic.twitter.com/p3IrtuVUBA
برهنت أوكرانيا أنّها ماهرة في فنّ استخدام المساحة – بمساعدة من روسيا نفسها. تبيّن أنّ الجيش الروسيّ ضعيف على مستوى الإمدادات اللوجستيّة، ومع طول المساحات الفاصلة بين حدود روسيا وكييف، تمكّن الأوكرانيّون من تعطيل الهجوم على العاصمة. أدرك الروس استحالة إصلاح هذا الخلل في وقت قصير فتحوّلوا إلى الهجوم البطيء لكن المركّز على الشرق. هناك، بما أنّ المسافات بين الحدود الروسيّة ودونباس أقلّ بكثير، وبالاعتماد على قوّة ناريّة أكبر، حرمت روسيا أوكرانيا من "التفنّن" باستخدام المساحة. وبمساعدة من جمهوريّي ترامب الذين عرقلوا المساعدات، حُرمت أوكرانيا أيضاً من "التفنّن" باستخدام الوقت.
وثمّة قولٌ آخر لنابليون عن هذه المعادلة: "المساحة، أستطيعُ استعادتها. الوقت، أبداً". بمعنى آخر، تتفوّق قيمة الوقت على قيمة المساحات في الحروب. فهو يمنح الخاسر فرصة لالتقاط أنفاسه واستجماع قواه وإعادة تصويب خططه. وقد يفرض على المهاجِم استنزاف نفسه إلى حدّ كبير. هكذا فاز الشيوعيّون على القوميّين في الحرب الأهليّة الصينيّة بعد أن كان الطرف الثاني متفوّقاً إلى حدّ بعيد. لهذا السبب، قد يمثّل 20 نيسان (أبريل)، تاريخ إفراج مجلس النوّاب عن حزمة المساعدات، منعطفاً لافتاً في تاريخ الحرب، على اعتبار أنّ واشنطن منحت كييف منذ تلك اللحظة فترة زمنيّة معقولة لإعادة تقييم أهدافها وخططها بالتوازي مع قدرات متابعة القتال.
من التكتيك إلى الاستراتيجيّة
أحد الأسئلة المطروحة بشدّة حاليّاً هو ما إذا كانت كييف قادرة على الدفاع عن مدينة تشاسيف يار (15 كلم غرب باخموت) في الأسابيع القليلة المقبلة قبل البدء بالاستفادة من المساعدات العسكريّة. في السيناريو المتفائل، ستصمد المدينة المرتفعة التي تمنح المهيمن عليها قوّة ناريّة على المدن والبلدات المجاورة. في السيناريو الثاني والمحتمل بشدّة، تخسر كييف تشاسيف يار. لكنّ خسارة المدينة في ظلّ توقّع وصول المساعدات أمرٌ مختلف إلى حدّ كبير عن خسارتها لها في ظلّ مساعدات عالقة. اليوم، سيكون بإمكان أوكرانيا استيعاب هذه الخسارة المحتملة بهدوء أكبر. مع إقرار الحزمة، من المحتمل أن تكون هذه واحدة من بين آخر الخسائر الميدانيّة البارزة في المدى المنظور. بدون الحزمة، أمكنها أن تكون منطلقاً لخسائر أخرى متسارعة.
The tempo of Russian offensive operations is currently higher in the Avdiivka direction than near Chasiv Yar, as Russian forces focus on exploiting a tactical situation that is unfavorable to Ukrainian troops northwest of Avdiivka. (1/3) https://t.co/cS7sVsvBX6 pic.twitter.com/YTfxLEBs6f
— Institute for the Study of War (@TheStudyofWar) April 28, 2024
وستوفّر حزمة المساعدات مزايا أخرى لأوكرانيا. يقول مؤيّدو فكرة الهزيمة الأوكرانيّة المحتّمة إنّ مشكلة كييف الأولى هي القوّة البشريّة الأضعف من نظيرتها الروسيّة وعجزها عن دفع المزيد من الشباب إلى الالتحاق بالجبهات. وهذا صحيح. لكن بالمقابل، يشير الأستاذ الفخريّ لدراسات الحرب في كلّيّة الملك بلندن لورنس فريدمان إلى أنّ المساعدات الأخيرة قد تساعد جزئيّاً في حلّ هذه المشكلة. الآن، سيرى الشباب الأوكرانيّ أنّ بإمكانه الذهاب إلى الجبهات مع احتمالات أكبر للنجاة، بعكس ما كانت عليه الحال قبل إقرار المساعدات.
من المنطقيّ القول إنّ أوكرانيا لم تشهد حالة من التشاؤم كتلك التي شهدتها في الأشهر القليلة الماضية منذ انطلاق الغزو تقريباً. حتى بعد تعثّر الهجوم المضادّ، كان هناك حزنٌ بسبب عدم استرجاع المزيد من الأراضي (أو الوصول إلى بحر آزوف)، لكنّه لم يكن حزناً بسبب توقّع خسارة الحرب. للمرّة الأولى، وبخاصّة بعد سقوط أفديفكا، شعر الأوكرانيّون بأنّ الهزيمة تلوح في الأفق.
بعد الموافقة الأميركيّة على نقل المساعدات، بات بإمكان أوكرانيا التفكير مليّاً بكيفيّة الاستعداد لهذا الاحتمال القاتم. فهي اقتربت منه إلى حدّ كبير بحيث لم يعد بالنسبة إليها مجرّد فكرة مستقبليّة مبهمة. يمكنها التعامل مع الدعم العسكريّ الجديد على أنّه آخر حزمة من المساعدات وبالتالي استخدامه فقط للدفاع الطويل الأمد واستنزاف القوّات الروسيّة حتى تقبل موسكو بالتفاوض. حاليّاً، وبصرف النظر عن الدعوات لإجراء تسوية، لا تبدو موسكو مستعدّة لقبولها. قال الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين الشهر الماضي إنّ "البدء بالتفاوض فقط لأنّ ذخيرتهم تنفد سيكون سخيفاً". بعبارة مغايرة، إنّ التفاوض مع أوكرانيا وهي تملك ما يكفي من الذخيرة لعام أو أكثر "قد لا يكون سخيفاً".
خيارات أكثر
إذاً، الاحتمال الأكبر حاليّاً هو لجوء أوكرانيا إلى الدفاع حتى أواخر 2024. بعدها، تملك أوكرانيا أكثر من خيار. إمّا مواصلة الدفاع في حال وصل ترامب إلى البيت الأبيض مع مضيّه قدماً في تطبيق خطّته، وهذا يعني أنّ أوكرانيا ستتمكّن نظريّاً من الصمود كدولة في ظلّ حدود الجبهة الحاليّة (وبمساعدة من أوروبا)، وإمّا تستعدّ لشنّ هجوم مضادّ آخر في ربيع 2025 إذا ظلّ بايدن في السلطة واستطاع حزبه الإمساك بالكونغرس. قد يكون هذا السيناريو متفائلاً بحسب البعض، لكنّه ليس مستبعداً تماماً. في جميع الأحوال، سيكون موقف أوكرانيا التفاوضيّ تجاه روسيا أقوى وهي تحتفظ بمعظم مدنها الكبيرة. يمكن تخيّل حجم الانتكاسة النفسيّة لو كانت أوكرانيا ذاهبة إلى محادثات بعد خسارة خاركيف مثلاً، هذا إذا قبلت روسيا بتلك المحادثات. علاوة على كلّ ذلك، وفي ما قد يمثّل نفحة أمل إضافيّة، لن تستطيع روسيا الحفاظ على وتيرة الإنتاج الدفاعيّ نفسها لفترة طويلة. تفيد تقارير أنّ القاعدة الصناعيّة الروسيّة ستبلغ ذروتها بين 2025 و2026 على أبعد تقدير. بالتالي، تبدو لعبة اللحاق بالركب الصناعيّ الروسيّ أمراً غير بعيد تماماً عن التصوّرات.
لا يعني كلّ ذلك أنّ أوكرانيا ستتمكّن من استعادة كامل أراضيها في السنوات المقبلة أو أنّها ستتفادى بالضرورة خسارة قاسية. الأوكرانيّون أنفسهم يعترفون بأنّ الفجوة في القدرات الناريّة مع الرّوس لن تسدّها الحزمة العسكريّة المقبلة، إنّما ستقلّصها وحسب. لكنّ الحديث عن أنّ هذه الحزمة لن تغيّر شيئاً بالنسبة إلى أوكرانيا هو ادّعاء يفتقر إلى أدلّة وازنة. مجرّد إطالة الحرب هو التغيير الأوّل الذي تنشده أوكرانيا والذي فضّلت روسيا على الأرجح أن تحرمَ كييف منه. بعد إقرار الحزمة، ستخسر روسيا المزيد من قوّتها العسكريّة بوتيرة أكبر حتى لو استطاعت إخضاع أوكرانيا في النهاية. بالتالي، ستحتاج إلى فترة أطول لإعادة تشكيل قوّاتها على النحو الذي كانت عليه قبل الحرب.
بالمقابل، إنّ العنصر الأساس الذي تريده أوكرانيا حاليّاً بحسب مراقبين هو "العيش من أجل القتال ليوم آخر، لشهر آخر، لعام آخر". وهذا بشكل أو بآخر ما قاله نحو ثلاثة أرباع الأوكرانيّين في أحد استطلاعات الرأي، وهذا ما حصلوا عليه مؤخّراً. من اليوم وصاعداً، سيتحدّد مسار الحرب إلى حدّ كبير عبر كيفيّة استفادتهم من الوقت الإضافيّ الذي مُنح لهم بعد طول تردّد.