أتى نبأ اعتقال نائب وزير الدفاع الروسيّ في 23 نيسان (أبريل) ليعيد رسم المشهد الداخليّ في موسكو، أو على الأقلّ، كي يهيّئ لهكذا احتمال. اعتُقل تيمور إيفانوف، 48 عاماً، بتهمة تلقي رشاوى "على نطاق واسع بشكل خاص". كما اعتُقل المقرّبان منه أيضاً سيرغي بورودين وألكسندر فومين، بناء على التّهمة نفسها.
من إيفانوف إلى شويغو
كان إيفانوف مسؤولاً بشكل أساسيّ في وزارة الدفاع عن مشاريع السكن وبناء المنشآت الطبّيّة المتعلّقة بالجيش. شملت تعاقداته مدينة ماريوبول الأوكرانيّة التي احتلّتها روسيا بداية الحرب. وبحسب بعض التقارير، كان إيفانوف مسؤولاً أيضاً عن صفقات أسلحة. وفي سنة 2022، سلّطت منظّمة المعارض الراحل أليكسي نافالني الضوء أكثر على أعماله وتعاقداته.
من المرجّح أن يكون تسرّب الكثير من نمط عيش إيفانوف إلى الإعلام قد ساهم في فقدانه حصانته خصوصاً أنّ حياة البذخ والتّرف لدى مسؤول حكوميّ يمكن أن تثير حفيظة نظراء له لا يتمتّعون بفرص إثراء مساوية. كان الفساد جزءاً من العوامل المتنوّعة التي أبطأت الجيش الروسيّ في حربه وكلّفته خسائر باهظة. بالتالي، يمكن أن يؤدّي اعتقال المشتبه بهم من ذوي الرتب الرفيعة إلى زيادة ثقة الجيش بالمؤسّسات الرسميّة. يصحّ ذلك خصوصاً إذا حُكم على المدانين بالسجن لفترات قد تصل إلى 15 عاماً. لكن ثمّة علامات استفهام أخرى عن مكانة إيفانوف في حلقة الحكم.
Russian Deputy Defense Minister Timur Ivanov has been sent to a pre-trial detention center on charges of taking a bribe on a very large scale. Ivanov is from Shoigu’s close circle and certainly has solid infos on his boss. He may face 15 years in prison.pic.twitter.com/ayO5dEbeZ8
— Velina Tchakarova (@vtchakarova) April 24, 2024
من جهة، هو على علاقة اجتماعيّة جيّدة مع الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف. ومن جهة أخرى، يعدّ إيفانوف مقرّباً من وزير الدفاع سيرغي شويغو. قد تعود العلاقة إلى الفترة التي خدم خلالها شويغو لوقت قصير في حاكميّة منطقة موسكو سنة 2012. وتبع إيفانوف شويغو إلى وزارة الدفاع حتى أصبح نائبه سنة 2016. لهذا السبب، اتّجهت التحليلات الغربيّة بشكل تلقائيّ إلى الرسالة التي يمكن للكرملين أن يكون قد وجّهها إلى شويغو.
كان شويغو من المحظيّين في الكرملين. بالرغم من الحملات العنيفة ضدّ قيادته للحرب، أكان من الرئيس الأسبق لمنظّمة "فاغنر" يفغيني بريغوجين، أو من قادة عسكريّين آخرين من ضمن الجيش، عمد الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين إلى حماية وزيره من كلّ الانتقادات. تربط الرجلين صداقة وطيدة حيث تظهرهما الصور وهما يتشاركان رحلات صيد إلى جانب مناسبات أخرى.
فهل اهتزّت هذه الصداقة الآن؟
الاحتمال وارد. يشير تقرير توم بارفيت في صحيفة "ذا تايمز" البريطانيّة إلى أنّ شويغو "حليفٌ مفيد لكن (أيضاً) كبش فداء ملائم للإخفاقات في حرب أوكرانيا، حيث أدّى غياب الكفاءة إلى أعداد كبيرة من الخسائر البشريّة". ما لا يجيب التقرير عنه سبب اعتقال إيفانوف الآن، بعدما تحسّنت فرص روسيا في تحقيق الاختراقات.
ربّما يقدّم تقرير بيثاني إيليوت في موقع "أنهيرد" البريطانيّ إجابة على هذا السؤال. بحسب رأيها ثمّة فرضيّتان على الأقلّ. الأولى أنّ بوتين يحاول تعزيز قوّة جيشه قبل الهجوم الكبير المرتقب في الصيف، أمّا الثانية فتكمن في قلق بوتين الحاليّ من تداعيات حزمة الدعم الأميركيّة الأخيرة على الميدان. تلاحظ إيليوت أنّ بيانات شويغو التي أعقبت إقرار حزمة المساعدات الأميركيّة والتي لفتت إلى أنّ روسيا "ستزيد حدّة الهجمات" حتى "تحقيق أهداف العمليّة العسكريّة الخاصّة" قد لا تعبّر عن جنديّ ملتزم بل عن رجل مثقل بالضغط لإظهار نتائج ميدانيّة.
(إيفانوف - أ ب)
الأجواء العامّة في روسيا تمثّل تأكيدات إضافيّة على احتمالات وجود ضغط كهذا. من المتوقّع أن يستلم بوتين مقاليد الحكم في ولايته الخامسة بشكل رسميّ في السابع من أيار (مايو). بعد يومين، يأتي موعد الذكرى السنويّة لـ"يوم النصر" حين تستذكر روسيا انتصار السوفيات على النازيّة. لا يبدو أنّ لدى بوتين الكثير ليحتفل به مع الروس. سقوط أفديفكا بات مُخزَّناً في الذاكرة البعيدة نسبيّاً (شباط/فبراير) والبلدات القليلة التي سيطرت عليها روسيا منذ ذلك الحين لا تحمل أيّ قيمة استراتيجيّة. في ظلّ سيناريو أسوأ لكن مرجّح، إنّ التقدّم البطيء للجيش الروسيّ قد يصبح أبطأ بعد وصول حزمة المساعدات إلى أوكرانيا.
يأتي ذلك على خلفيّة الهجوم الإرهابيّ على قاعة للحفلات الموسيقيّة في إحدى ضواحي موسكو أواخر آذار (مارس) الماضي والفيضانات التي ضربت عدداً من البلدات الروسيّة والتي تُوسّع سلسلة الاستياء الشعبيّ بشكل أو بآخر. في الخلاصة، هناك ضغط كبير على شويغو لإظهار ما يمكن الاحتفال به خلال الأيّام أو الأسابيع القليلة المقبلة. لكن ثمّة مشهد آخر لفت مراقبين من داخل موسكو نفسها، وارتبط بطريقة الاعتقال.
صغير جداً... متأخّر جدّاً
نقلت صحيفة "فايننشال تايمز" عمّن وصفته بالشخص المقرّب من وزارة الدفاع الروسيّة قوله: "لقد اعتقلوه في المكتب، وهو يرتدي الزيّ الرسميّ، مباشرة بعد اجتماع مكتب وزارة الدفاع حيث كان (إيفانوف) يجلس بعيداً من شويغو بكرسيّ واحد. كلّ هذا استعراض". وأضاف متسائلاً: "ما هو الشعور إن لم يكن تقويض شويغو؟"
(شويغو ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف - أب)
لم تكن طريقة الاعتقال هي اللافتة وحسب بل من قام بها أيضاً: جهاز الأمن الفيديراليّ "أف أس بي" وهو المقرّب أكثر إلى بوتين من شويغو، بحسب الأستاذ الفخريّ في كلّيّة لندن الجامعيّة مارك غاليوتي. في مجلّة "سبكتيتور"، يطرح غاليوتي سؤالاً آخر مثيراً للاهتمام. "هل يمكن لشويغو أن يكون وطنيّاً حقيقيّاً، إذا كان يُرفِّع ويحمي خونة مختلسين في زمن الحرب؟"
أتى ذلك بعد إشاعات عدّة عن احتمال توجيه تهم بالخيانة إليه، بالرغم من أنّ الكرملين نفى هذه الإشاعات. لكنّ ذلك لا ينقص من أهمّيّة السؤال إذا كان إيفانوف مختلساً فعلاً.
تعليقاً على إقالة شويغو لإيفانوف بعد اعتقاله، كتب غاليوتي: "قرارٌ صغيرٌ جدّاً، متأخّر جدّاً".
ستشخص الأنظار قريباً إلى موسكو لمعرفة ما إذا كان شويغو سيحافظ على منصبه في التشكيلة الوزاريّة المقبلة. قبل أسابيع فقط، كان مثل هذا التشكيك ضرباً من الخيال.